علي الشرقاوي



عندما يسكن المسرح داخلك، وتبدأ الشخصيات تتحرك كما يريد لها مخرجها، لتصل إلى القلب دون الحاجة إلى الاستئذان من أحد، ودون التوقف أمام مقص الرقيب الداخلي، فهي تسير بانسابية وعفوية وبساطة...هذا هو عبدالله ملك الذي يقول عنه الصديق الناقد الراحل محمد البنكي «بعبدالله ملك اتحدى نصف مخرجي مصر، وربما أكثر»، وهو يرى أن المسرح البحريني كبش لكل زمان يسمنه البعض كي يغري جيوب الجمهور ويعلق في رقبته البعض جرساً كي يثير انتباه الأطفال...عبدالله ملك قطعة من ثلج صغيرة على رأس المسرح البحريني المرضوض، إذا ارتفعت حرارة التجريب، وهو بين الأقران مشروع سفر على مفترق طرق، وإن تذكر القربى حن إلى «الجزيرة»، وإن تعلق بأيام الدراسة تطلع إلى «أوال»، وإن استروح راحة قدم «كل الفنون» هذا الـ»عبدا لله ملك» لا يريح ولا يستريح عينه على بلح الشام وشفاهه على عنب اليمن، ومشكلته الأزلية التي لا يعرف الخلاص منها، أنه «بوتعب» إذا أقنعنا بأنه زرع البطيخ جاء زمن الحصاد فلم يجد إلا الرويد!، وإذا كانت خفة الدم هبة من عند الله يؤتيها من يشاء وينزعها ممن يشاء ميزة عبدالله ملك في خفة دمه، فإن نقطة ضعف عبدالملك أنه ولد في المسرح البحريني لا سواه».
وكان الفنان البحريني عبدالله ملك لأكثر من أربعين عاماً وعشرات المسرحيات والأعمال التلفزيونية وتقديم البرامج، واحداً من الذين سكنهم المسرح وسكنوه حتى هذه اللحظة، محاولاً أن يتجدد في رؤيته وأطروحاته في الفضاء الذي يتعامل معه، عبدالله ملك ترك بصمة واضحة في كل الأعمال الفنية التي قدمها، سواء الكوميدية أو التراجيدية أو الميلودرامية، يحاول أن يغوص في أعماق الشخصيات التي يقوم بأداء أدوارها، أو تلك الشخصيات التي يحركها على خشبة المسرح.
غناوي بو تعب
ورغم أنني تعرفت على عبدالله ملك، من خلال أول عرض مسرحي من إخراجه على خشبة مسرج الجير، بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة الأكاديمية، وهي مسرحية مقام إبراهيم وصفية، وقد اعتبرت في حينها، أننا أمام مخرج شاب يحمل الكثير إلى المسرح البحريني الذي يبحث عن نفسه من خلال هذه الطاقات الشابة التي تخرجت من المعهد للعالي للفنون المسرحية بالكويت.
ولكن شهرة عبدالله ملك الحقيقية، كما أرى، ظهرت بصورتها الحقيقية من خلال فوازير مسابقة «غناوي بو تعب» من تأليفي وألحان يعقوب يوسف وإخراج أحمد يعقوب المقلة، وتصوير عبدالرحمن الملا، وماكياج عزيز مندي، وكان هذا العمل جديداً بكل ما فيه على الساحة البحرينية التلفزيونية، فهو أول عمل بحريني غنائي استعراضي، وأول عمل غنائي استعراضي يكتبه مؤلف بحريني وأول عمل يلحنه ملحن بحريني وأول عمل يقوم بتشكيل وجوه شخصياته بحريني وأول عمل يقوم بجميع أدوار الشخصيات ممثل واحد هو عبدالله ملك، واستطاع ملك في هذا العمل أن يجسد 30 شخصية مختلفة في الشكل والصوت والصورة والنفسية والمهنة، بشكل لافت للأنظار، مما جعله أهم فنان بحريني يتحول نجماً في سماء الدراما التلفزيونية.
موهبة مبكرة
ومن أجل التعرف أكثر على شخصية عبدلله ملك دعونا نعود معاً إلى مرحلة البدايات التي ساعدت في حضور هذا النجم في البحرين، فقد عاش عبد الملك طفولته في أزقة المحرق وكانت لوالدته الفضل في إبراز قدراته حيث كانت حريصة أن يختم القرآن أكثر من مرة، كانت له نشاطات مدرسية وكان ينشد الأناشيد الوطنية مثل «بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي» و»أوال يا أم البلاد»، وعام 1967 وكان في سن العاشرة من عمره جاءت انطلاقته الفنية من خلال مسرحية كلنا فدائيون وكان في صف الرابع ابتدائي، أما الانطلاقة الفعلية
فكانت عام 1974 من خلال مسرحية زمن البطيخ كما شارك في عام 1977 في المسلسل الشهير الأقدار مع العمالقة عبد الحسين عبد الرضا وسعد الفرج وكان الفنان عبدالله ملك «كومبارس» ويصادف فترة دراسته بالكويت، أما البداية الفعلية كانت عام 1980 من خلال مسلسل السيف المفقود في الكويت أيضاً مع الفنان القدير علي المفيدي.
دراسة أكاديمية
والتحق عبدالله ملك بالدراسة الأكاديمية من خلال المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت ونجوم دفعته «جيله» الفنان محمد المنصور والفنانة المرحومة ابتسام حسين والفنانة البحرينية مريم زيمان والفنانة السعودية سناء يونس والفنان القطري علي حسن والفنان البحريني إبراهيم خلفان.
ويقول الصحافي حافظ إمام وهو يكتب عن لقائه مع عبدالله ملك في لقاء لجريدة أخبار الخليج البحرينية: لا يستطيع متابع للحركة المسرحية في البحرين أن يغفل إخراج أعمال مسرحية مثل «سوق المقاصيص» و»روميو الفريق» و»سرور» و»يوم عرس رشدان» و»ربع المكدة»، كما لا يغفل غافل أدواره التي قام بتجسيدها كممثل في مسرحيات «درب العدل» و»السوق» و»خور المرعى» و»الملك هو الملك» و»يوم من زماننا»، وصاحبنا وفناننا عبدالله ملك من عمق المحرق وبالتحديد من حالة بوماهر فيها ولد وتربى ومنها خرج إلى دنيانا حاملاً موهبته بين أحد عشر أخاً وأختاً.. وكما يقولون أحد عشر كوكباً.. الوالد صاحب مهنة بسيطة اشتغل في بابكو وعمل بائعاً جائلاً للكيروسين وسقاء للمياه أيام زمان. كان الرجل مشغولاً بأكل عيشه ومهنته بينما الأم شغلت بتربية الأبناء والبنات.. وعندما أرسلت صغيرها عبدالله إلى المطوع ليحفظ القرآن كانت تختبره بنفسها ثم تعيده مرة بعد مرة إلى المطوع ليجيد الحفظ ويتعلم مخارج الألفاظ وحسن النطق ولم تكن تدرك بعفويتها إن هذا الإلحاح من جانبها على ابنها بإجادة الحفظ سوف يكون طريقه إلى التفوق في الإلقاء فعندما التحق عبدالله بالمدرسة الابتدائية اختاره مدرس اللغة العربية الأستاذ محمود عبدالغفار ليكون واحداً من التلاميذ المعنيين بالنشاط المدرسي في طابور الصباح.. كان يلمس في عباراته النطق السليم فكان ينشد مع المنشدين أناشيد الصباح وامتد نشاطه إلى أشبال الكشافة في مدرسة عمر بن عبدالعزيز التي كانت تعرف بمدرسة الدوى، وامتدت مساهماته ونشاطاته إلى مدرسة عبدالرحمن الناصر ثم مدرسة طارق بن زياد وصولاً إلى مدرسة الهداية الخليفية فكان متفوقاً في التمثيل والإلقاء والكشافة.
بين التمثيل والكشافة
وفي اللقاء نفسه يقول حافظ إمام: «ويتذكر عبدالله ملك زملاء المدرسة ومنهم إبراهيم بحر وجاسم الحربان والشيخ خليفة بن حسن آل خليفة ومع الذكريات يتوقف عبدالله ملك مع أول دور تمثيلي وهو مازال في المرحلة الابتدائية، كانت هذه هي أول مرة يقف فيها أمام الجمهور وهو شبل من أشبال نادي الجزيرة (نادي الحالة الآن)، كانت سنه عشر سنوات عندما قام بتمثيل مسرحية «كلنا فدائيون» مع محمد وسعد الجزاف وفيصل المرباطي.. كان يؤدي دور شبل فلسطيني».
الأساتذة الكبار
وفي مدرسة الدوي كان ينشد صباحاً نشيد «بلادي بلادي.. ويقول فلسطين يا أم البلاد»، وكانت هذه الانطلاقة الأولى لعبدالله ملك لكن الانطلاقة الأهم التي تمت بعد نضج ودراسة فقد تمثلت في مرحلة ما بعد تخرجه المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت.. في هذه المرحلة تعلم فيها فنون المسرح أثناء دراسته على أيدي العمالقة سعد أرشد وأحمد عبدالحليم وسناء شافع والمنصف السويسي.
ويقول عبدالله ملك إن القدر ساقه إلى الدراسة بالمعهد العالي في الكويت وساعده على ذلك أنه منذ أن كان صغيراً وهو عضو في مسرح الجزيرة، وقد اختار الممثل سعد الجزاف الطلبة المرشحين للالتحاق بمعهد الكويت، وتقدم للالتحاق من البحرين 25 طالباً تم اختيار أربعة منهم هم: عبدالله ملك وإبراهيم خلفان ومريم زيمان وسناء يونس.
ويذكر عبد الله ملك أن فترة الدراسة بمعهد الكويت كانت حافلة بالنشاط والاحتفالات، كما أتاح له ذلك المشاركة في عدد من المسلسلات التلفزيونية بالكويت منها مسلسل «السيف المفقود» ومسيل «الجوهرة» وقام بتمثيل شخصية أسامة بن زيد في مسلسل «نساء في شعاع النبوة».
تلفزيون البحرين
أما بدايته مع تلفزيون البحرين فكانت مع بداية الثمانينات حيث بدأ تلفزيون البحرين تقديم أعمال درامية وظل عبدالله ملك على عضويته في مسرح الجزيرة حتى عام 1985 حيث انضم إلى مسرح أوال، ويتذكر من أعماله المسرحية في مسرح الجزيرة إخراج مسرحية «كبش لكل زمان» وتمثيل دور في مسرحية «كان يا ما كان» أما خلال عضويته في مسرح أوال حتى الآن فقد كانت حافلة بالأنشطة المسرحية تمثيلاً وإخراجاً. فقدم مسرحية «قابيل لكل العصور» من إخراج الفنان خليفة العريفي ومن إعداد الفنان الراحل كرم مطاوع.
وفي عام 1981 قام عبدالله بإخراج مسرحية «تعطيل يعود» وقام بتمثيل دور في مسرحية حفلة تنكرية من إعداد إبراهيم خلف، ومن خلال عدد كبير من خريجي المعاهد المسرحية من أبناء البحرين سواء كانت هذه المعاهد في الكويت أو في القاهرة أو غيرهما تمت مزاولة عدة أنشطة مسرحية متكاملة، كان عدد هؤلاء الخريجين والخريجات نحو 30 ما بين رجال ونساء يذكر من النساء: أحلام محمد وفاطمة الدوري ومريم ريمان وماجدة سلطان وهدى سلطان إضافة إلى سامي القوز وخليفة العريفي وقحطان القحطاني وإبراهيم بحر وإبراهيم خلفان، وفي كل سنة كان يقدم عبدالله ملك عملاً مع أحمد يعقوب المقلة منها فرجان لول وحزاوي الدار وسعدون ومع المخرج المصري الكبير مجدي أبوعميرة تم تقديم «أولاد بوجاسم» من تأليف محمد عبدالقوي، وتعرف عليه الجمهور الخليجي والكويتي عام 1980 من خلال مسلسل السيف المفقود ولكن بأسرع ما تم نسيانه ونسيان العمل وتفاصيله وهذا يعود بسبب قلة عرض المسلسل أنتج عن ذلك نسيان العمل ونسيان تفاصيل حتى أتت أجيال وأجيال لا تعرفه.
سماء اللا نهاية
ودائماً أتوقف عند مسرحية «ثعلوب الحبوب» التي قدمتها جمعية رعاية الطفولة من تأليف خلف أحمد خلف و إخراج عبدالله ملك وكلمات الأغاني لعلي الشرقاوي وألحان وحيد الخان. توقفي عند هذه المسرحية، لأنها من أوائل المسرحيات التعليمية التي طرحت في البحرين، من خلال المسرح الدائري، والمسرح الدائري كما يراه المشتغلون في المسرح هو المسرح المفتوح، ويعتبر المسرح الدائري من أنواع المسارح المفتوحة ويكون محاطاً في جميع جهاته بالمتفرجين وهذا النوع من المسارح يكون الدخول والخروج بالنسبة للممثلين إما من خلال المتفرجين أو من تحت خشبة المسرح، ومن العوامل التي تلعب دوراً في هذا الموضوع في المسرح هي: تأثير بعد المتفرج عن المشهد المنظور:في تصميم المسارح ذات الاستعمال الواسع من الضروري قبل كل شيء حل مسألة مواقع مقاعد المتفرجين في المسقط مع الأخذ بالاعتبار الحد المسموح للبعد في هذه الصالة.وعلى سبيل المثال في الصالات التي تستخدم بشكل دائم فإن طول الصالة المسموح به هو45م. حيث إنه في حالة كون المسافة أكبر يكون هناك خرق لنظام الرؤيا والسمع بحيث تتولد علاقة سلبية بين وصول الصوت والصورة لأنه تتم الرؤيا قبل السماع. فبالنسبة للمسرح يجب أن يكون المتفرج على مسافة يستطيع منها رؤية تعابير الوجه. وعادة المسافة المسموح بها هي 20م من مركز المسرح، وزوايا النظر الأفقية والرأسية: التي تحدد أفضل موقع للمقاعد: إضافة لموضوع المسافات الدنيا والعليا المسموح بها بين المتفرج والعرض فإن موقع المتفرج بالنسبة إلى موضوع الرؤيا في المسرح يحدد كذلك بزوايا أفقية وراسية، وعليه فإن أهمية قصوى يجب أن تعطى لزوايا النظر، بالنسبة للمتفرج نصل إلى الطريق الأمثل لتوضع المقاعد بشكل يسمح لكل المتفرجين ومن مختلف الزوايا بالرؤيا وبشكل جيد أي توزع المقاعد بشكل عادل. وشروط الرؤيا.
ويقول الناقد البحريني الكبير والباحث في المسرح د.إبراهيم عبدالله غلوم عن هذه التجربة في كتابه «الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي»، اللعبة لا تحدد –وحدها- جميع الخصائص المسرحية في ثعلوب الحبوب رغم أنها العنصر الميز لها، ورغم أنها لم تستظهر جانباً أساسياً فيما هو مسرحي فيها، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا مظاهر انغمار المؤلف والمخرج بالرغبة الشديدة في تعليم الأطفال، وينطبق هذا القول على العنصر المميز الثاني في مسرحية. ثعلوب الحبوب وهو قالبها المفتوح.
ويقول إنه في مسرحية الثعلوب لا تنعزل المناطق عن بعضها إلا في حدود يسيرة هي الحدود التي أراد لها المخرج أن تكون مخصصة لانتظام جلوس الأطفال. وفيما عدى ذلك فإن في هذه المسرحية تجريباً هاماً على صعيد تجربة مسرح الطفل، وقوام هذا التجريب وعي المخرج- وكذلك المؤلف – بضرورة تحويل الصالة بأسرها إلى ركح تتحدد فيه مشاغل التمثيل مع مشاغل التلقي.
ويرى الباحث غلوم أن عبدالله ملك، ومعه المؤلف، قد دخل بمقولة تسبق أي مقولة تربوية أخرى وهي تحقيق تجربة الشكل المسرحي المفتوح، وبغض النظر عن اكتمال استجابته لشروط التجربة أو عدم اكتمالها فإن مجرد انبهاره بهذه التجربة، واندفاعه نحو تنفيذها، يجعله مسؤولاً عن تأصيل قيمة مسرحية لها خطورتها وأهميتها الكبيرة في تجربة مسرح الطفل وهي ضرورة البحث في عالم الطفل من خلال استبصارات التكنيك المسرحي وأدوات القلب الدرامي.