عندما يتحدث قادة التيارات الدينية -خصوصاً الذين يستندون في فكرهم وقراراتهم ومواقفهم إلى المرجعيات الدينية المقدسة- عن الديمقراطية، يتولد نوع من المفارقة، بين ربط سلطة المقدس والمطلق، وسلطة الزمني السياسي، بما يجعل القرار السياسي والتشريعي الديمقراطي (الانتخاب أو الاستفتاء أو القانون) مقيداً بمباركة وموافقة أو عدم موافقة الفقيه المرشد المقدس (سواء أكان ولياً فقيها أم مجرد فقيه أم مرشداً عاماً) بغض النظر عن مدى العلم الذي يمتلكه ويحوزه على صعيد المعرفة الفقهية.
السؤال نفسه يمكن طرحه بصيغته الأخرى؛ أيهما أهم في المنظومة والهيكلية السياسية (الديمقراطية) في ظل حكم التيارات السياسية بمرجعية دينية (من خارج منظومة الولي الفقيه): رئيس الدولة المنتخب ديمقراطياً أم مرشد الجماعة الإسلامية الذي بيده الحل والربط؟ (الأمر هنا يتجاوز الإرشاد بمعناه الديني التقليدي إلى معناه السياسي، بل قد يصل إلى امتلاك القدرة على الحسم السياسي في المواقف والقرارات والخيارات) بما يتعارض في النهاية مع متطلبات المجتمع الديمقراطي ومع الديمقراطية نفسها، أو يفرغها من محتواها أو يلغيها في النهاية.
هذه المفارقة ناجمة عن خلط بين المفاهيم واضح، فإذا كان بعض الإسلاميين ما يزالون إلى اليوم يعتبرون الديمقراطية بدعة لا يجدر بنا الثقة بها أو اللجوء إليها الا للحصول على السلطة (نتذكر هنا أن أغلب الإسلاميين كانوا إلى عهد قريب يعتبرون الديمقراطية بدعة غربية منكرة)، فإن التيارات الجديدة والتي أحست أن لها بعض التأثير العددي، وبعض التأثير على الشارع في ظل التصحر الفكري والسياسي الذي نشرته الأنظمة السياسية العربية خلال الخمسين سنة الماضية في ظل الاستبداد، ارتأت في الديمقراطية وسيلة نافعة (أو مجرد آلية) للوصول إلى الهدف وهو التحكم في السلطة والتمكن من السيطرة على المجتمع من خلالها، وبعد ذلك يمكن ركوب أي مطية أخرى على الأرجح لترسيخ وتأبيد ما يسمى بالحكم الإسلامي بديلا للشرعية الديمقراطية.
ولدينا في المثال الإيراني خير دليل على ذلك، حيث وصل رجال الدين إلى السلطة عبر ثورة شعبية، ولم يتم استخدام الديمقراطية إلا كآليات شكلية للسيطرة على المجتمع والتحول به تدريجياً إلى ديكتاتورية دينية- عسكرية يحكمها تحالف من الفقهاء والحرس الثوري، أما ما بقي من هذه الديمقراطية الشكلية فهو مجرد هيكل عظمي بدون حياة، يمنع التداول السلمي على السلطة، ويمنح الصكوك للمرشحين، يمنع هذا ويسمح لذاك بناء على معايير الفقهاء (الذين يدركون لوحدهم مصلحة الجمهورية)، كما يتم منع أي حراك ديمقراطي مستقل -حتى وإن كان من داخل الرؤية الإسلامية المستقلة- أي منع حتى أي قراءة إسلامية أخرى مخالفة لسلطة الفقهاء وهيمنتهم، حيث يتم تكفير وتخوين أي حركة خارج هذا الضبط والربط العنيفين. وفي ظل هكذا «ديمقراطية» يتم إعدام المعارضين واعتبارهم جواسيس وعملاء للغرب، ومنع التظاهر الحر وحتى الأنشطة الثقافية والفنية والسينمائية وغيرها.
وإذا كنا نتفق على ضرورة جعل الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية محاطة بسياج من القيم الدينية (ولا يمكن أن نختلف عن ذلك أبداً)، فإنه لا يمكن القول إننا ديمقراطيون ونتكئ في ذات الوقت إلى سلطة الولي الفقيه أو سلطة الفقيه المرشد في الشأن السياسي على سبيل المثال بما يعني في النهاية انتفاء الإرادة الشعبية الحرة، أي غياب الديمقراطية في أهم تجلياتها، فضلاً عن قتل الحرية والحق في الاختلاف، وهما من أهم صور هذه الديمقراطية.
لقد أصبحت الديمقراطية ضرورة ملحة لا يجادل في أهميتها اثنان، بل لا نغالي إن قلنا إن أي عمل سياسي أو تحرك شعبي أو تكتل حزبي إذا لم يضع في أولوياته ترسيخ قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإنه لا يحظى بالقبول وليس له فرصة للبقاء. ولكن من الواضح أن القليل منا يعود بالديمقراطية في مفهومها إلى جذورها الصحيحة وهي أن الديمقراطية لكي تنجح وتنتشر فلا بد لها من مدنية الدولة بمعنى الفصل بين الدين والدولة على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأنظمة والقوانين، باستثناء ما له علاقة بنظام الأسرة لارتباطه بالضرورة بالمنظومة الدينية والروحية لكل مجموعة، حيث لا يمكن الأخذ بالديمقراطية دون الأخذ بمدنية الدولة (بكل متطلباتها). فالممارسة الديمقراطية تعني ببساطة شديدة: المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وحتى تكون هذه المشاركة حقيقية وفاعلة لا بد من توافر شرطين اثنين هما: المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة بغض النظر عن الفوارق الدينية والعرقية والسياسية والجنسية، والثاني هو ضمان حرية الفرد الكاملة في الكلام والتعبير والتنظيم والعمل السياسي، بالإضافة إلى حقه في الاختلاف، فالديمقراطية هي حرية الفرد في التعبير والكلام وهي حق الآخر في الوجود وحريته في العمل والتعبير.. هي المساواة بين الجميع دون تمييز، هي نسبية الحقيقة: أي الاعتراف المسبق باحتمال خطأ الذات الذي يقابله احتمال أن يكون الآخر على صواب هي حق الأقلية في أن تتحول إلى أكثرية، فدون هذين الشرطين لا يمكن القول بوجود ديمقراطية حقيقة.. لأن الدولة كيان مدني، وبهذا المعنى تكون ملكاً للجميع ومن أجل الجميع، وذلك أرقى أشكال الديمقراطية.