منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كتبت مقالاً بعنوان “الأمم العظيمة والأمم الفاشلة” ونشر المقال بجريدة الأهرام المصرية، ثم تضمنه كتابي “الصين بعيون مصرية” الذي صدر في عام 2002 من دار المعارف بمصر.
المقال كان تعليقاً على مؤتمر دولي عقد في مدينة شنغهاي آنذاك في إطار سلسلة من المؤتمرات حول لغة “الماندرين”، وهي اللغة الصينية، وركز المؤتمر على أهمية الحفاظ عليها وتحديثها، ولهذا فإن الصين العملاقة مساحة وسكاناً ورغم تعدد لهجاتها تحرص في كافة وسائل التعليم والإعلام على الحفاظ على تلك اللغة لأنها تعبر عن ثلاثة أمور؛ الأول حضارة عريقة، والثاني حضارة قادمة بقوة نحو المستقبل، والثالث وحدة الأمة الصينية. وكنت ولا أزال أشعر بألم شديد من الطريقة التي نتعامل بها نحن العرب مع اللغة العربية “لغة القرآن الكريم العظيم” الذي من خلاله قامت الحضارة العربية والإسلامية، والذي من خلاله انتشر الإسلام وأصبح المسلمون الآن في عددهم حوالي مليار ونصف المليار نسمة.
ولعل من مظاهر إساءتنا للغة العربية أن كثيراً من القادة والسياسيين بل وبعض رجال الدين في خطبهم في المساجد وبعض أساتذة القانون والقضاة لا يعرفون النحو العربي الذي أرسى قواعده القرآن الكريم وطوره في منهج علمي شخصيات أمثال أبو الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو 16-69 هجرية) والخليل بن أحمد الفراهيدي (100-173 هجرية) وسيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان 140 180هجرية) وغيرهم.
هذه مقدمة ضرورية لموضوعنا عن الثقافة والطب الصيني التقليدي؛ إذ تحرص الصين على إحياء ثقافتها وتطويرها وتحديثها فلا تعيش في التراث القديم بعقلية القديم، إنما تطوره بما يتلاءم مع العصر الحديث في هذا الإطار العلمي الثقافي القديم والحديث في آن واحد، لقد عقد المنتدى الثقافي العالمي الصيني مؤتمراً حول “الثقافة والطب الصيني التقليدي” من 7-10 يونيو 2012م، وبصفتي متخصصاً في الشؤون الصينية وجهت لي دعوة للمشاركة في المؤتمر، وكان عنوان البحث الذي تقدمت به وحظي بإعجاب المشاركين هو “مفهوم التناغم في الطب بين الحضارتين الصينية والإسلامية”، ولأنه بحث متخصص فإنني أشير في عجالة سريعة وبسيطة لهذا المفهوم، وهو أن الحياة يحكمها قانونان هما قانون الصراع وقانون التناغم، وكلاهما أشار إليه القرآن الكريم والفلسفة الإسلامية، وكذلك الفلسفة الصينية منذ كونفوشيوس ولاوتزو ومدرسة المشرعين والفلسفة التاوية، كذلك تحدثت عنه الفلسفة الغربية (الأوروبية) في فكر جون لوك، توماس هوبز وجان جاك روسو وغيرهم.
لقد تحدث العلماء والخبراء من الصين ومختلف دول العالم الذين شاركوا في المؤتمر عن دور الثقافة وإحياء الطب الصيني التقليدي، ثم أعد منظمو المؤتمر زيارة لأحدث مراكز الإنتاج للمنتجات الطبية الصينية المبنية على الفلسفة التقليدية، وهي طب الأعشاب الصينية وزيارة معرض الإنتاج وقد انبهر الجميع بهذه الشركة للنظافة والاحتياطات الصحية الدقيقة والمعدات الحديثة للإنتاج والتعبئة والتغليف، ولا يخجل الصينيون في شرحهم أن يقولوا إنهم استوردوا هذه المعدات والتكنولوجيا من سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة. ولعل هذا المنهج في الفكر والقول والعمل يعكس التواضع الصيني الذي بدأ منذ لحظة وصولنا للمؤتمر حتى لحظة المغادرة، ونكتفي هنا بأن نسوق الملاحظات العامة التالية:
الأولى: إن رئيس المؤتمر هو رئيس المنتدى الثقافي العالمي الصيني البروفسور Zhao، وهو إن لم يكن متخصصاً في الطب إلا أن لديه رؤية استراتيجية حول مفهوم الثقافة وأبعادها المتعددة والتي منها إحياء التراث وفي مقدمته الطب الصيني التقليدي.
الثانية: إن المؤتمر ضم نخبة من كبار العلماء والمفكرين عن المجالات الثقافية والاقتصادية والفكرية والسياسية فضلاً عن المتخصصين في علوم الطب والأدوية وعلوم النفس من مختلف دول العالم من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وروسيا وأستراليا واليابان وكوريا وإندونيسيا وغيرها، ومن بين هؤلاء العلماء عالم الاقتصاد روبرت موندل الحائز على جائزة نوبل، وعالم الإدارة المشهور دي بونو صاحب نظرية القبعات الست وغيرهم، وكنت الوحيد من العالم العربي المدعو للمؤتمر.
الثالثة: تحدثت في الجلسة الأولى العامة للمؤتمر بصورة واضحة في التعبير عن أفكاري وآرائي وخلاصتها أن الطب الصيني التقليدي رغم أهميته فإن له نظائر في كل الحضارات وفي مقدمتها الحضارة العربية والإسلامية وحضارة مصر الفرعونية وغيرها. وإن ما يسمى بالحضارة الغربية اليوم هي حضارة عالمية لأنها حصيلة عملية تراكمية للحضارات السابقة عليها وفي مقدمتها حضارة مصر القديمة وفارس والهند والصين والحضارة الإغريقية والرومانية وغيرها، ومن ثم فإننا جميعاً شاركنا في هذه الحضارة وينبغي الاستفادة من ثمراتها. وضربت مثالاً بمساهمة أبرز علماء الحضارة الإسلامية هو ابن سيناء الذي أصدر العشرات من المؤلفات والتي أصبحت هي المراجع الرئيسة لمدارس الطب في أوروبا على مدى عشرة قرون حتى القرن الثامن عشر ، وأشرت لعلماء آخرين مثل ابن النفيس وابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد والفارابي وغيرهم ممن ساهموا في بناء الحضارة وإنجازاتها واعتمدت عليهم النهضة الأوروبية التي تطورت بعد ذلك لتصبح حضارة عالمية.
الرابعة: إنني أدعو لإحياء الطب والصيدلة العربية والإسلامية من منظور علمي حديث بالاعتماد على فكر العلماء السابقين، والأعشاب المتوافرة في المنطقة العربية واستخدام الفكر والعلم والتكنولوجيا الحديثة وليس عبر الوصفات الشعبية وكتب التراث التي تحتفظ بها رغم أهميتها فإنها تحتاج إلى تدقيق علمي بما يعكس مقتضيات العصر.
الخامسة: حبذا لو كان لدينا علماء ومفكرون ورواد يبادرون بطرح الأفكار والإصرار على وضعها موضع تنفيذ في مختلف المجالات العلمية بعيداً عن البريق الإعلامي وزفة السياسيين والقادة والزعماء.
إن العلم هو أساس التقدم ومحوره وهدفه الإنسان الحقيقي وليس السياسي أو المثقف الذي يبحث عن دور سياسي. لقد كان رئيس المنتدى الثقافي العالمي الصيني في غاية التواضع، ورغم أنه ظل طوال جلسات المؤتمر ومداولاته وبدأ عليه الإرهاق، فإن الابتسامة والهدوء لم يفارقانه، وكان مساعدوه في درجة عالية من الكفاءة، وجلهم من الشباب من الجنسين، وكثير منهم من المتطوعين، وهذا تعليم للأجيال الجديدة حول كيفية التفاعل مع العالم المعاصر بقضاياه وثقافاته وحضاراته ومكوناته البشرية.
هكذا تتقدم الصين وتتغير تلقائياً مركزة على فكرها وإنتاجها وحضارتها بمنهج ثابت وواضح، وتعيش شعوب أخرى من أجل نشر أفكارها وأيديولوجيتها لتغيير العالم وإذكاء الصراع بين شعوبه وعقائده وأديانه وطوائفه وأعراقه ويقع كثير من المثقفين والسياسيين في دولنا النامية وخاصة العربية فريسة لذلك الطموح المدمر للزعامة يركزون على مفهوم الحقوق السياسية وينسون الحقوق الأساسية الأهم وهي الحقوق المدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذلك ترقص شعوبنا على نغمات موسيقى ليست موسيقانا، وتعمل النخب الفكرية لدينا وفقاً لأولويات ليست أولوياتنا، ونعيش في صراع مع بعضنا بعضاً، بل مع ذاتنا ومجتمعنا وجيراننا، ونغذي الأجيال الجديدة بالأحقاد بدلاً من تغذيتهم بمفاهيم الوئام والتوافق والتناغم والسلام والتنمية والتقدم، ومن ثم يتم تدمير منجزاتنا ونهب ثرواتنا وإعادتنا للقرون الوسطى حيث الصراع المستمر تحت دعاوى متعددة وطموحات وأوهام متنوعة هي أشبه بالمقولة التقليدية لدينا “كلمة حق يراد بها باطل”.
فهل نرى الحقائق ونعمل من أجل بناء مستقبلنا وتقدمنا بدلاً من أن نعيش أحلاماً لا تتلاءم مع الواقع الذي نعيشه، ومع مراحل التطور الاجتماعي أو نعيش مع الماضي ونحبس أنفسنا في الأفكار السائدة عنه وممارساته حلوها ومرها. إن علينا أن نتعلم من الصين كما نصحنا النبي الكريم بقوله المأثور “اطلبوا العلم ولو في الصين”.