ضاقت مساحة الحرية الفكرية والتسامح في ظل اتساع سطوة التكفير والحرفية والتقديس، إلى الدرجة التي أصبح معها يستحيل الخوض في أي موضوع كلامي أو فلسفي أو فقهي دون التعرض إلى الرجم، بل إلى درجة أن كاتباً كلاسيكياً قديماً مثل الجاحظ يمكن أن يصبح في ظل البؤس السائد حالياً مفكراً للمستقبل، مع أنه كان يتهجّى الأبجدية الأرسطية، وإلى الدرجة التي يمكن معها أن نعتبر المعتزلة الحزبّ التقدمي العقلاني للمستقبل مثلاً!!
فأيّ بلاء أكثر من أن نكون أقل قدرة على خوض غمار قضايا الفكر، وأقل جرأة من علم الكلام القديم ومتكلميه من مختلف المذاهب، وأقل قدرة على التعبير عن مواقفنا من قضايا الفكر الإنساني الأساسية من أناس رحلوا منذ أكثر من 14 قرناً فقط!!!
والأغرب من هذا العجز والخوف والمداورة الفكرية والتهرب من مواجهة الاستحقاقات الحضارية، إننا أصبحنا غير قادرين على معالجة قضايا السياسة الأكثر إغراء -مثل الديمقراطية- بعيداً عن المعالجة الفكرية الفلسفية دون اعتبار للمقدسين الجدد الذين يصنفون أنفسهم منزهين عن الخطأ معصومين عن الهفوات والتقصير في التحليل والاستنتاج، أليست الحرية -بما فيها السياسية- مرتبطة بمشكلة حرية الإنسان وقدرته على التّحكم في مصيره بإدارته؟ أليست الديمقراطية هي في أحد أبرز وجوهها تأكيداً لإرادة الإنسان وقدرته على الانفصال والاستقلال عن المقدسين؟! ألا يجب أن نبدأ بإبراز الإرث الحضاري الضخم الذي تمّيزت به حضارتنا في هذا المجال والذي يحاول دعاة الحرفية والتقليد طمسه والانتقاص من شأنه، وهو علم الكلام؟!
هذا العلم الذي -أصبح اليوم من المحرمات- يتضمن مباحث مثل الجبر والاختيار تضع الإنسان في وسط طرفي معادلة وجودية في سباق مع الأسئلة المدهشة: من يخلق أفعال البشر؟ وهل الإنسان قادر على الخلق أم يقتصر دوره على الكسب أم أنه لا يمتلك سوى الخضوع المطلق؟
لسنا هنا في حاجة إلى طرح الأسئلة الأكثر تحدياً لساحات الحرفية، واقتراباً من ساحات التأويل العقلي والمجازات.. فقد ورثنا علم الكلام، وعلمونا أنه خوض في متاهات لا طائل من ورائها ومجادلة في الدين، عقّدت مبادئه الواضحة الجلية وحولته إلى مهاترات بين مختلف الفرق، يصنع بها المتكلم ما يشاء، لذلك كان علم الكلام منبوذاً في الأوساط الدينية، ومازال ينظر إليه على أنه إنتاج مشبوه، يُشوّه صفاء الدين.. يستوي في ذلك رأي الغزالي في “تهافت الفلاسفة” وسيد قطب في “التصّور الإسلامي”.
يقول سيد قطب: “أنا على يقين بأن التصور الإسلامي لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلغي منه جملةً كل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية وكل مباحث علم الكلام”، ويغيب على الذين يحاربون الفكر والفلسفة الجزء الحي منه، لأنهم يكرهون طرح السؤال -مع أنه أساس الوجود الحيّ- أن علم الكلام قد نشأ استجابة لتطلعاتنا الفكرية في مرحلة النهوض الحضاري، ولتوضيح تصور حضارتنا للعالم وللوجود ولدور الإنسان فيه وأن هذه المباحث رغم طابعها المعقد قد شكلت أهم مقوّمات أفكارنا الموروثة في كبائر الأمور وصغائرها، وأنّ صراعاً فكرياً ضخماً قد شقّها، صراع بين القوى المستنيرة المدافعة عن موضوعية الوجود وقدرة الإنسان على الخلق والاستقلال والإبداع والقوى المتشبثة بالجبرية والحرفية.
وفي موازاة ذلك يقضي الفكر الحرفي للأصولية بمعاداة الحداثة ولذلك تسعى الأصولية الجديدة إلى فرض الشريعة (أو النقل الحرفي) كمعيار لكل أشكال السلوك الإنساني والاجتماعي رافضة بالتالي أي مرجعية ثقافية أخرى ترافق أو تتجاوز الثقافة الدينية البحتة كالفنون التشكيلية والموسيقى والفلسفة والأدب والعادات الوطنية من دون ذكر الاستعارة من الثقافات الأخرى. كما إنها لا تقيم مع العلوم سوى علاقة استخدام فتوافق على الحاسوب وترفض العقلانية العلمية.
ويبقى هاجس هذه الأصولية الجديدة رسم خط أحمر بين الدين والكفر، وهو خط يخترق الأمة الإسلامية نفسها، فهي ترفض بالتالي كل المساومات الدينية وأيضاً الثقافية مع الثقافة الشاملة المهيمنة والتي هي اليوم ثقافة الغرب. كل الأمور مصنفة ضمن قاعدة المعروف والمنكر بما في ذلك التفاصيل السطحية من نوع طريقة حلاقة الذقن (“طالبان” الأفغانية) أو تنظيف الأسنان. ويصبح النشاط الرئيسي للعلماء أو الواعظين المتطوعين إصدار الفتاوى لتحديد شرعية السلوك، من استخدام البطاقات المصرفية إلى وهب الأعضاء أو دخول المرأة للسينما إلى أكل الأطعمة وطريقة أكلها.
{{ article.visit_count }}
فأيّ بلاء أكثر من أن نكون أقل قدرة على خوض غمار قضايا الفكر، وأقل جرأة من علم الكلام القديم ومتكلميه من مختلف المذاهب، وأقل قدرة على التعبير عن مواقفنا من قضايا الفكر الإنساني الأساسية من أناس رحلوا منذ أكثر من 14 قرناً فقط!!!
والأغرب من هذا العجز والخوف والمداورة الفكرية والتهرب من مواجهة الاستحقاقات الحضارية، إننا أصبحنا غير قادرين على معالجة قضايا السياسة الأكثر إغراء -مثل الديمقراطية- بعيداً عن المعالجة الفكرية الفلسفية دون اعتبار للمقدسين الجدد الذين يصنفون أنفسهم منزهين عن الخطأ معصومين عن الهفوات والتقصير في التحليل والاستنتاج، أليست الحرية -بما فيها السياسية- مرتبطة بمشكلة حرية الإنسان وقدرته على التّحكم في مصيره بإدارته؟ أليست الديمقراطية هي في أحد أبرز وجوهها تأكيداً لإرادة الإنسان وقدرته على الانفصال والاستقلال عن المقدسين؟! ألا يجب أن نبدأ بإبراز الإرث الحضاري الضخم الذي تمّيزت به حضارتنا في هذا المجال والذي يحاول دعاة الحرفية والتقليد طمسه والانتقاص من شأنه، وهو علم الكلام؟!
هذا العلم الذي -أصبح اليوم من المحرمات- يتضمن مباحث مثل الجبر والاختيار تضع الإنسان في وسط طرفي معادلة وجودية في سباق مع الأسئلة المدهشة: من يخلق أفعال البشر؟ وهل الإنسان قادر على الخلق أم يقتصر دوره على الكسب أم أنه لا يمتلك سوى الخضوع المطلق؟
لسنا هنا في حاجة إلى طرح الأسئلة الأكثر تحدياً لساحات الحرفية، واقتراباً من ساحات التأويل العقلي والمجازات.. فقد ورثنا علم الكلام، وعلمونا أنه خوض في متاهات لا طائل من ورائها ومجادلة في الدين، عقّدت مبادئه الواضحة الجلية وحولته إلى مهاترات بين مختلف الفرق، يصنع بها المتكلم ما يشاء، لذلك كان علم الكلام منبوذاً في الأوساط الدينية، ومازال ينظر إليه على أنه إنتاج مشبوه، يُشوّه صفاء الدين.. يستوي في ذلك رأي الغزالي في “تهافت الفلاسفة” وسيد قطب في “التصّور الإسلامي”.
يقول سيد قطب: “أنا على يقين بأن التصور الإسلامي لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلغي منه جملةً كل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية وكل مباحث علم الكلام”، ويغيب على الذين يحاربون الفكر والفلسفة الجزء الحي منه، لأنهم يكرهون طرح السؤال -مع أنه أساس الوجود الحيّ- أن علم الكلام قد نشأ استجابة لتطلعاتنا الفكرية في مرحلة النهوض الحضاري، ولتوضيح تصور حضارتنا للعالم وللوجود ولدور الإنسان فيه وأن هذه المباحث رغم طابعها المعقد قد شكلت أهم مقوّمات أفكارنا الموروثة في كبائر الأمور وصغائرها، وأنّ صراعاً فكرياً ضخماً قد شقّها، صراع بين القوى المستنيرة المدافعة عن موضوعية الوجود وقدرة الإنسان على الخلق والاستقلال والإبداع والقوى المتشبثة بالجبرية والحرفية.
وفي موازاة ذلك يقضي الفكر الحرفي للأصولية بمعاداة الحداثة ولذلك تسعى الأصولية الجديدة إلى فرض الشريعة (أو النقل الحرفي) كمعيار لكل أشكال السلوك الإنساني والاجتماعي رافضة بالتالي أي مرجعية ثقافية أخرى ترافق أو تتجاوز الثقافة الدينية البحتة كالفنون التشكيلية والموسيقى والفلسفة والأدب والعادات الوطنية من دون ذكر الاستعارة من الثقافات الأخرى. كما إنها لا تقيم مع العلوم سوى علاقة استخدام فتوافق على الحاسوب وترفض العقلانية العلمية.
ويبقى هاجس هذه الأصولية الجديدة رسم خط أحمر بين الدين والكفر، وهو خط يخترق الأمة الإسلامية نفسها، فهي ترفض بالتالي كل المساومات الدينية وأيضاً الثقافية مع الثقافة الشاملة المهيمنة والتي هي اليوم ثقافة الغرب. كل الأمور مصنفة ضمن قاعدة المعروف والمنكر بما في ذلك التفاصيل السطحية من نوع طريقة حلاقة الذقن (“طالبان” الأفغانية) أو تنظيف الأسنان. ويصبح النشاط الرئيسي للعلماء أو الواعظين المتطوعين إصدار الفتاوى لتحديد شرعية السلوك، من استخدام البطاقات المصرفية إلى وهب الأعضاء أو دخول المرأة للسينما إلى أكل الأطعمة وطريقة أكلها.