“قمة الانحياز الإيراني” هذا هو الوصف الأمثل للقمة التي عُقدت في طهران الأسبوع الماضي، ولاشك أن إيران محمود أحمدي نجاد وريث سيء، في هذا الوقت على الأقل، لاستضافة مؤتمر المنظمة التي أسسها ثلاثة من أهم زعماء القرن العشرين “جمال عبدالناصر، جواهر لال نهرو، جوزيف بروز تيتو” الذين عملوا بصدق على خدمة قضايا الدول المستضعفة ولم يكونوا طرفاً في الصراعات التي تدفع الشعوب المغلوبة على أمرها ضريبتها كما تفعل إيران اليوم .
في مؤتمر “الانحياز الإيراني” اعتبر البعض خطاب الدكتور محمد مرسي، رئيس مصر، نصراً عربياً مظفراً، والخطاب كان من القوة والرصانة أن بعث الإحساس بالفخر والقوة في نفوس مستمعيه من العرب لعدة أسباب موضوعية، فهو خطاب يحمل وعياً مكتملاً بالذات العربية الإسلامية وعلاقتها بالآخر المتعدد المختلف وفيه إدراك صحيح للدور التاريخي الذي لعبته مصر، وخصوصاً في عهد عبدالناصر، في ضبط إيقاع السياسة العالمية تجاه العرب، وكانت مصر حينها سباقة في المبادرة بالتوجهات الإيجابية في معظم المحافل الدولية، وفي المشاركة في العديد من القضايا العربية والعالمية، والخطاب جاء معبراً عن آمال الشعوب المهمشة وطموحاتها واحتجاجها على المعاناة الطويلة التي عاشتها في ظل الهيمنة الأمريكية والغربية، وكان محرضاً لكسر القيود الكثيرة التي كبلت بها هذه الشعوب لتحتل موقعها المناسب في نظام عالمي جديد عادل .
مضمون خطاب الرئيس مرسي وبنيته يعد نقلة جديدة في ثقافة الخطاب السياسي العربي، ويعد تأسيساً لمنهجية جديدة في صياغة المواقف العربية وبلورتها، لأنه يمتاز بالصراحة والوضوح والتحرر من الرصانة الدبلوماسية التي أفسدت على العرب الكثير من قضاياهم، و«ميّعت” حلولاً عديدة لمشكلاتهم حتى أصبح أكثرها معلقاً أو ضائعاً، ولكن علينا ألا ننزلق إلى خطأ التبجيل الكبير للخطاب الذي وقع فيه الكثيرون، فليس الترضي عن الصحابة في طهران فتحاً جديداً لفارس، وليست المجاهرة بحق الشعب السوري في إسقاط نظامه الظالم جهاداً أكبر في إيران!!، فالخطابات وإن دلت على عقيدة وفلسفة صيغت بها ولأجلها، تظل كلاماً مالم يدعم القول بالأفعال .
ففي القمة “المنحازة” كانت إيران، كعادتها، سباقة في المواقف، فحرفت كلمة الرئيس مرسي في الترجمة الإيرانية مستبدلة اسم البحرين باسم سوريا في بعض الموضوعات، وتمخضت القمة عن بيان ختامي لم يتطرق للقضية السورية من قريب أو بعيد، وصمتت كل الأصوات العربية إلا من احتجاج البحرين على الزج باسمها في كلمة الرئيس المصري، ولم ينسحب الوفدان البحريني والمصري من إحدى الجلسات احتجاجاً على سلوك الإعلام الإيراني، كما فعل الوفد السوري حين انسحب من الجلسة الافتتاحية احتجاجاً على كلمة الرئيس المصري وموقفه من النظام السوري، ولم ينتقد أحد البيان الختامي أو يرفض المصادقة عليه، أو يطلب تعديله لتهميشه معاناة السوريين وتغافله عن حقهم في الحرية الديمقراطية، ورغبتهم في الأمن والحياة، لقد مرت قمة طهران المنحازة بهدوء كأن خللاً ما لم يطرأ عليها، وتم إقرار بيانٍ ختامي لم يتضمن في برنامج عمل منظمة دول “عدم الانحياز” للسنوات القادمة موقفاً من القضية السورية، أو دوراً مساهماً في حلها، وهي قضية قد تصبح أخطر القضايا العربية في السنوات القادمة، إذا انفجر “بركان دمشق” وخرجت سوريا عن سيطرة العرب!!
يُذكرني الـ “لا موقف” العربي في قمة طهران بـ “موقفين”، الأول للأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1984 تقديراً لجهوده في مكافحة التمييز العنصري، حيث رفض توتو حضور فعالية تقام في جوهانسبيرغ في جنوب أفريقيا بمشاركة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، احتجاجاً على الدور “غيرالأخلاقي” الذي مارسه بلير في تأييده للغزو الأمريكي للعراق على أساس مزاعم غير مؤكدة، حسب تعبير توتو، وصرح مكتب الأسقف أنه من غير اللائق تقاسم المنبر مع بلير بعد كل ما حدث!!
والموقف الثاني كان لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان حين انسحب من منتدى “دافوس” الاقتصادي 2009، احتجاجاً على الهجوم الإسرائيلي على غزة، ورَفْض أردوغان الجلوس جنباً إلى جنب مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، وكان دعماً معنوياً للفلسطينيين في معاناتهم، لم يتمكن من التجاوب معها الأمين العام السابق للجامعة العربية الذي كان يجلس على المنصة ذاتها.
ما حدث في قمة “الانحياز الإيراني” هو استمرار للسلوك الإيراني المنحاز علنا ضد قضايانا العربية المصيرية التي لا تمثل مصالح إيرانية، وإذا كانت القمة قد أسفرت عن تدشين مرحلة جديدة في الخطاب السياسي العربي ناتج عن التغير العام في المناخ السياسي العربي، الذي فرضته الشعوب نفسها، والذي سيُحدث تغييراً لامحالة في الواقع السياسي العربي، فإن القمة لم تتجاوز العجز العربي أمام السلوك الإيراني، ولم ترقَ السياسة العربية فيها بعد إلى مرحلة الفعل والمبادرة.