نكمل في الجزء الثاني من المقال، حديثنا عن الفارق بين شرعية صندوق الاقتراع، وشرعية الأداء والإنجاز، حيث نطبق ذلك على الصين كأنموذج.
إن التحدي الثاني المتعلق بالأزمة الاقتصادية العالمية وأثرها على الصين هو أثر لا يمكن إنكاره، ومع هذا فإن الصين في عام 2012 حققت نمواً اقتصادياً ما بين 7%-8%.
ويرى أستاذ العلوم السياسية والرأسمالي الصيني إيريك شي لي «Eric x li» ان «هناك قوتين دافعتين للتقدم الاقتصادي الصيني في المرحلة المقبلة هما عملية التحضر Urbanization أي الانتقال من الريف للمدن، وتطوير الريف إلى مستوى المدن «وهو يستلزم الكثير من تطوير البني التحتية وهذا يمثل قوة دافعة للاقتصاد، والركيزة الثانية هي تعزيز روح الرأسمالية Entrepreneurship المعتمدة على المشروعات، وخاصة الإنتاج الموجه للتصدير».
وبالنسبة للتحدي الثالث فهو يتمثل في الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقاليم، والصين تعمل على رفع مستوى الطبقات الفقيرة وزيادة حجم الطبقة المتوسطة، كما تعطي كوادرها الحزبية والإدارية حرية التصرف والمبادرة بابتكار السياسات ذلك لتحقيق الإنجاز ولهذا يمكن أن نسميه شرعية الإنجاز Performance legitimacy ، ويسوق إيريك شي لي عدة أمثلة في هذا الصدد موضحاً أنه «كلما قام مسؤول بتجربة ناجحة يتم تعميمها وترقية المسؤول».
أما بالنسبة للأقاليم فإن الصين أطلقت منذ عهد الرئيس الأسبق جيانج تزمين حملة الاتجاه للغرب الصيني وفرضت على الأقاليم الشرقية المتقدمة المساهمة في تطوير الأقاليم الغربية وكذلك سمحت لمختلف الأقاليم بالتسابق في جذب الاستثمارات الأجنبية.
وهكذا نخلص من العرض السابق إلى عدة أمور:
- الأول: أن النموذج الصيني، كما ذكرت مراراً في العديد من المقالات والبحوث العلمية المقدمة في المؤتمرات الدولية، هو نموذج يستحق الدراسة والاهتمام للاستفادة منه، وليس نقل التجربة بصورة كاملة، ذلك لان لكل مجتمع ظروفه وخصائصه الذاتية.
- الثاني: إن النموذج السياسي والتنموي الغربي ليس هو النموذج الوحيد في العالم، وإن ذلك النموذج نشأ أيضاً في بيئة مختلفة، وليس بالضرورة يصلح للدول النامية، وخاصة الدول العربية ولكن على هذه الدول أن تدرس هذا النموذج أيضاً وتستفيد منه دون أن تنقله نقلاً حرفياً.
- الثالث: إن منطقة الشرق الأوسط وهي تعيش مخاضاً عسيراً في هذه المرحلة، حيث يسود الانقسام الحاد بين نماذج ثلاثة: الأول نموذج جمهوري شبه وراثي، ثارت الشعوب ضده، وتخلصت منه، ولكنها عاجزة عن تقديم نموذج بديل، بل إن الأنظمة الجديدة تعاني من انعدام الرؤية، ومن نقص المصداقية والشفافية في اختيار القيادات السياسية والإدارية، ومن سيطرة الروح الانتقامية والاقصائية، وهذه حالة يمكن ان تطلق عليها تسمية «الإدارة بالأزمات» أي افتعال الأزمات لشعوبها وللنخب السياسية، وإشغالهم في هذه الدائرة الجهنمية، في حين تتفرغ هذه القيادات الجديدة للسيطرة على مفاصل النظام السياسي القديم، وإحلال كوادرها قليلة الخبرة، ومحدودة الأفق محل الكوادر الإدارية والسياسية القديمة، وهكذا تعيش هذه الدول في دوامة أو دائرة جهنمية Vicious circle كما أسماها علماء الاقتصاد . أما النموذج الثاني، فهو نموذج جمهوري وراثي اعتمد القمع منهجاً والتحالف مع القوى الإقليمية والدولية طريقاً، والشعارات الخادعة أسلوباً للبقاء في السلطة وتدمير الدولة، وهو نموذج نيرون Nero الإمبراطور الروماني الذي ترك روما تحترق طالما هو في السلطة ولا يدري انه سوف يحترق معها يوما ما. وهذان النموذجان قامت قيادتهما على ثلاثة أسس هي القيادة بالأزمات التي يجعل الشعب يعيش في دوامتها، والإخفاق في الأداء الاقتصادي، والهاء الشعوب بالشعارات الخادعة، وبالعدو الخارجي الذي يتآمر دائما أي مفهوم المؤامرة الخارجية وربما الداخلية أيضاً. والنموذج الثالث هو نموذج وراثي للسلطة، تدريجي في التطور ركز على التنمية الاقتصادية والبشرية، وسمح بحراك سياسي محدود غير ثوري وغير انقلابي، وهو أكثر الأوضاع استقراراً في هذه المرحلة في المنطقة العربية، وربما هذا ما دعا البروفسور سيث جونز، السابق الإشاره إليه، للقول إن على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الشرق الأوسط كما هو، وليس كما تريده السياسة الأمريكية ونماذجها المثالية، أو حتى نموذجها الواقعي الذي طورته وفقاً لتاريخها وتراثها وتركيبتها السياسية والديموغرافية.
- الرابع: هو ما نراه، ونكرره مرارا في دراستنا ومقالاتنا وتحليلاتنا، أن لكل دولة ظروفها وتاريخها وتراثها وينبغي أن تطور نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يتناسب مع تلك الخصائص الذاتية لها.
فالنموذج الديمقراطي الأوروبي أو الأمريكي تطور عبر مئات السنين ولم يصل لما وصل إليه بين عشية وضحاها، ومع ذلك فهو ليس مثاليا، وليس مكتملا وبه الكثير من المثالب، كما إنه عملية أو صيرورة أو سيرورة وفقاً للترجمات المختلفة لمصطلح Process ، ولهذا ينبغي على النخب السياسية والحكومات والشعوب، إدراك أن التطور يسير في مراحل، وان عملية حرق المراحل، واستقدام النماذج الجاهزة المعلبة ليس هو الوسيلة أو الأسلوب الأمثل، بل هو مثل الوجبات السريعة المليئة بالدهون والسموم التي تدمر المجتمعات، ولعل هذه الممارسة أثرت في صحة وتكوين وبيئة المجتمع الصيني، وأيضا المجتمعات الخليجية خاصة والعمومية بوجه عام باعتمادها على هذه الوجبات الجاهزة وتخليها عن تراها الغذائي أو التقليدي الأكثر صحة وملائمة للمناخ ولظروف الحياة، وهكذا السياسة والاقتصاد والثقافة، ولكن ينبغي أن نحذر من حالة الفهم الخاطئ، وهو تصور الدعوة للجمود كبديل التغيرات السريعة، وما ندعو إليه من الناحية الفكرية والعملية هو أن التطور التدريجي ضرورة لامناص منها حتى لا يواجه المجتمع كوارث الانقلابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويؤدي ذلك إلى الضياع حيث يفقد هويته الأصلية ولا يحقق الهوية المستوردة فيصبح كالمعلقة في الهواء أو كالمنبت الذي ورد في الأمثال العربية وقيل عنه «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى».
- الخامس: إن شرعية صندوق الاقتراع ليست هي الوحيدة كمعيار وكأساس للديمقراطية في القرن الحادي والعشرين، ولكن الشرعية الجديدة كما عبر عنها كثير من علماء السياسة ومن الممارسين للعمل السياسي الصحيح هي بالإضافة لصندوق الاقتراع هي شرعية الأداء والإنجاز وشرعية التوافق المجتمعي Society Consensus ، وهذا ما يحقق التطور السلمي للمجتمع ويقيه كوارث الأزمات والانقلابات وبخاصة في بعض الدول التي تواجه تحدي ديمقراطية اقصائية أو طائفية أو أقليات أو نحو ذلك من النظم التي تتحدث عنها علماء السياسة القدامى أمثال أفلاطون أو أرسطو أو ديمقراطية الغلبة والعصبية التي تحدث عنها ابن خلدون.
- السادس: أهمية المفهوم التوافقي للنظم السياسية وليس مفهوم التصويت والغلبة، لأن هذا نشأ في إطار حضارة أوروبية تعرف معنى الحكم ومعنى المعارضة، وتطور نظامها عبر عقود طويلة، اما الحضارة العربية الإسلامية، فهي لا تعرف سوى معنى الحاكم والشعوب تنظر إليها بأنها رعايا، أما المعارضة فهي عدو وليست بديل شرعي للسلطة الحاكمة، وترى في السلطة مفهوم الأبدية حتى وإن جاء صاحبها عبر صناديق الاقتراع فيكون الاقتراع الحر النزيه هو الأول والأخير في نفس الوقت.

خبير في الدراسات والشؤون الصينية