نواصل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ لمصر. من هنا تكتسب زيارة الرئيس الصيني إلى مصر أهمية كبيرة، حيث جاءت بعد زيارتين مهمتين للرئيس عبد الفتاح السيسي للصين، ومن ثم فمن الضروري أن يعيد كل من القيادتين تقييمهما لمكانة الدولة الأخرى، ودورها الحضاري وتراثها الثقافي، وأهميتها الاستراتيجية وطموحات شعبها. فكل من الدولتين وبخاصة مصر تمتلك موقعاً استراتيجياً فريداً، أما الصين فهي بلد المملكة الوسطى أو المركزية، كما هو ترجمة اسم الصين باللغة الصينية، ولذلك فأهميتها لا تحتاج لدليل فحضارتها وإبداعات تلك الحضارة واضحة عبر العصور، كما إن كلاً من القيادتين لديها حلم قومي بتقدم بلادهما في إطار الصعود السلمي والحضاري، وكل من القيادتين تسعيان لبناء نموذج سياسي لا يعادي أية دولة في العالم، بل يستفيد من تجارب مختلف الدول، وكل من القيادتين يواجه تحدي الإرهاب الذي بعضه محلي وبعضه مدعوم من الخارج، إقليمياً أو دولياً، بهدف المساس بسيادة كل منهما أو إعاقة انطلاقاتهما الاقتصادية والوطنية، وكل منهما لديه طموحات الاستفادة من التراث الحضاري في بناء مشروع قومي أو وطني، لإعادة التراث الحضاري والقوة الاقتصادية. فقناة السويس جزء لا يتجزأ تاريخياً من طريق الحرير البحري، ومصر وبخاصة الإسكندرية عاصمة مصر القديمة جزء لا يتجزأ من تراث تاريخي في علاقات البلدين، واستيراد الصين تكنولوجيا مصرية بالنسبة لصناعة الحرير السلعة الرئيسة في الصين القديمة وتسويقه، وبالنسبة لصباغة المنسوجات، وبالنسبة لطريق الحرير البري الذي يمر عبر عدة مسالك في وسط آسيا حتى بلاد الشام ثم يعبر المتوسط للإسكندرية ومنها لأفريقيا وأوروبا.
هذا الفهم للمكانة الاستراتيجية وللطموحات الاقتصادية لكل من البلدين ينبغي أن يكون الركيزة المهمة في علاقات البلدين في هذه المرحلة من أجل بناء المستقبل القوي في علاقات الدولتين، وفي التغلب على مشاكلهما في القرن الحادي والعشرين، ولا يمكن نسيان دور الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف في نشر الوعي الديني السليم لدى المسلمين في الصين الذين يمثلون قوة مهمة في التراث الصيني الحضاري والثقافي وعلاقاتها الاقتصادية مع العالم رغم ما لحقهم من ظلم في بعض فترات التاريخ الصيني. ولقد كانت زيارة الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري الأسبق بمثابة نقطة مهمة في هذا الصدد، ولكن للأسف لم يتم متابعة ما حققته، إذ إنه عندما التقى بالمسلمين في بكين وشينجيانج وأكد لهم الارتباط بين الإسلام والمفهوم الوطني للدولة، وأن حب الوطن من ركائز الإسلام وأن الإسلام هو دين السلام الذي يقوم على التسامح والاعتدال، الأمر الذي أثلج قلوب الصينيين من المسلمين وغير المسلمين الذين حضروا الندوات والخطابات التي ألقاها أثناء تلك الزيارة. أما الأزهر الشريف فكان أول من فتح عيون الصينيين على الإسلام العقلاني والمعتدل منذ بداية القرن العشرين، ومازال تلاميذ المسلمين الأوائل من خريجي الأزهر الشريف يقدرون ذلك ويتذكرونه، وهذا يستدعي إعادة تنشيط الأزهر وقوته الناعمة ليس في الصين فقط، بل في مختلف دول القارة الآسيوية الإسلامية وغير الإسلامية، تنشيطاً عقلانياً بروح الإسلام الحضاري المصري المعتدل الذي يفهم الإسلام فهماً صحيحاً كما جاء به النبي محمد عليه الصلاة والسلام وليس الذي تشوه عبر العصور بفكر منحرف وتفسيرات ضالة ومتطرفة.
ما أريد قوله هنا إن ثمة هوة ثقافية ومعرفية في هذه المرحلة في فهم ثقافة ودور ومكانة وإمكانات كل من الدولتين لدى الطرف الآخر، وهو ما يستدعي تجسير هذه الهوة وتعزيز العلاقات، وخير من يمكنه الاضطلاع بهذه المهمة هم الخبراء الصينيون والخبراء المصريون المتخصصون في لغة وثقافة وحضارة الطرف الآخر، فهم مفتاح العلاقات والقادرون علي إزالة اللبس. وهذا لا يقلل من دور مختلف القيادات من الجانبين بل يعزز من دورهم ومن فهم كل طرف للطرف الآخر وإمكاناته.
لقد ساد نوعان من الوهم في تلك العلاقات في السنوات الأخيرة وبخاصة بعد ما سمي بـ «الربيع العربي»، حيث تصور بعض الصينيين أن مصر ضعفت وتراجع دورها ومكانتها، لذلك سارت العلاقات في وتيرة متباطئة. أما النوع الآخر من الوهم فهو لدى بعض النخب المصرية وهو تصور أن التفاوض مع الصين مثل التفاوض مع الدول الأوروبية وأن جذب الاستثمار مسألة سهلة، أو أن الصين لا ترغب في الاستثمار في مصر، غير مدركين أن الاستثمار يعتمد على ركائز مهمة وهي مدى فائدة كل طرف من العملية الاستثمارية، واستعداد كل طرف لتقديم تسهيلات وامتيازات للطرف الآخر، أي أن العملية يجب أن تقوم على أساس النفع المتبادل. وهذه هي الرسالة التي نتوجه بها لقادة البلدين وللمسؤولين على مختلف المستويات.
* سفير مصر الأسبق في الصين وعضو منتدى شنغهاي للدراسات
الصينية وعضو مجلس إدارة مؤسسة «كونفوشيوس» الدولية