^  كان فوز التيار الإسلامي في أكثر من بلد عربي متوقعاً نظراً للصورة النمطية التي انتشرت بين الشعوب العربية بأن هذا التيار قد ظلم طوال الفترة السابقة رغم أن هنالك تيارات سياسية أخرى قمعت، أي أن انتخاب التيارات الإسلامية كان نتاج تعاطف وليست هنالك ديمومة لهذا التعاطف في المرحلة المقبلة. على الأرجح، وهذا موضوع آخر. لكن الطريف هو أن هذه التيارات التي كانت طوال فترات عملها العلني أو السري تتحدث عن بناء دولة دينية وتطبيق الشريعة، فجميع التيارات الإسلامية المختلفة متضامنة في ما بينها رغم وجود بعض الاختلافات، حيث توجد خطوط عريضة مشتركة بينها، وأهمها ترسيخ الشريعة الإسلامية في الدستور، إلا أن الطريف اليوم أنها أصبحت تتكلم عن دولة مدنية ديمقراطية بأن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم “تكاد تكون لائكية في بعض التعبيرات”، ولكن هذه الدعوة -التي نتمنى أن تكون صادقة ومخلصة- تبدو غير متناسقة مع منابت أيديولوجيا التيارات الإسلامية بجميع مكوناتها، مهما تفاوتت برامجها، فهي في الغالب أبعد ما تكون عن مفهوم مدنية الدولة، ولذلك تحتاج مثل هذه الدعوة إلى إعادة فحص: أولاً: إن الأنظمة الاستبدادية السابقة في البلدان التي شهدت انتفاضات أو تحولات دراماتيكية قد عملت -خلال سنوات عديدة- على ضرب وعي المجتمعات العربية ومحاربة الحداثة الحقيقية، ونشر التصحر الفكري وتفريغ المجتمعات من طاقتها الفكرية، بتهميش كل ما هو تنويري، وهذا الوضع خدم في النهاية -وإن بشكل غير مباشر- نمو وتطور الحركات الراديكالية، والأفكار الإقصائية، وهو ما استفادت منه التيارات الدينية، وخصوصاً الطائفية منها التي كانت مقموعة من الأنظمة السابقة، واستطاعت -بواسطة استخدام الإسلام والشعور الديني- التمدد بين جماهير الطبقة الوسطى والطبقة الشعبية على حد سواء، بالرغم من كون مشروع هذه التيارات ملتبساً وغير واضح المعالم، نتيجة الخلط بين السياسي والديني، بما يرجح أنه سوف يوصلها في النهاية إلى طريق مسدود عندما سيصطدم هذا المشروع المرتبك بالواقع الاقتصادي والاجتماعي المرير في الدول العربية. ثانياً: قد يقول قائل لماذا الاستعجال في الحكم على تجارب الدولة الدينية “أو الدولة المدنية على الطريقة الدينية”، وهذا قول كثيراً ما يتردد، في حين أن التجربة أثبتت أن نماذج الدولة الدينية سواء في أفغانستان أو في إيران “أو حتى في السودان” غير قابلة للتسويق أو للدفاع عنها، نظراً لطبيعتها الشمولية ولأنها تطيح بالقيم الأساسية للديمقراطية مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة والمشاركة الحقيقية في السلطة، لذلك فإن إعلان عدد من الزعماء الدينيين “من مختلف المذاهب والطوائف” أنهم لا يريدون دولة دينية، يبدو أقرب إلى الدعاية الانتخابية، وقد لاحظنا ذلك في خطاب التيارات الدينية، وإذا ما صح هذا التوجه وصدق فإنه سيكون تطوراً سياسياً مهماً يتعين تشجيعه، بشرط أن تتضح معالمه وتتم ترجمته عملياً في الممارسة السياسية وفي المواقف. ثالثاً: المشكلة التي تواجه المتابع وهو يقارب خطاب التيارات الدينية، تتمثل في تقدم رجال الدين إلى الواجهة، ليتحولوا إلى مرجعيات وتتحول فتاواهم إلى بيانات وقرارات سياسية تقود الجمهور، وتبتلع قرارات الأحزاب الدينية “التي تدعو إلى دولة مدنية”، بل إن هؤلاء الفقهاء والمرشدين يتبوؤون مكان الصدارة ويحظون بنوع من القداسة تجعلهم فوق المساءلة السياسية وحتى الإعلامية، بما يضرب الديمقراطية وقيم الدولة المدنية ذاتها، وهذا ما يجعلنا لا نثق كثيراً في حكاية الدولة المدنية والديمقراطية على الطريقة الدينية. رابعاً: يجب أن نوضح في هذا السياق أن الدعوة الفجة في البلاد العربية إلى الفصل بين الدين والدولة لا تبدو واقعية، لأنه فصل خارج السياق الثقافي أصلاً، فالدولة في البلدان العربية -مهما كان اتجاهها الأيديولوجي- ترعى الإسلام، ومن مظاهر هذه الرعاية: - الإعلان في الدساتير أن الإسلام هو دين الدولة باستثناء حالة أو حالتين فقط. ^ رعاية الدولة لدور العبادة وللمشرفين عليها “أغلبهم موظفون عند الدولة ويحصلون على رواتب حكومية”. ^ التزام الدولة باحترام ورعاية الشعائر الدينية الإسلامية. ^ إدراج التربية الإسلامية ضمن برامج التعليم الرسمية في جميع المراحل الدراسية. ^ المحافظة على التراث الإسلامي ونشره والعناية به. .. وللحديث صلة