^ تتقدم الأمم والشعوب مع حركة التاريخ، وفي تقدمها الزمني تحسم تاريخياً في قضاياها المتراكمة، في شكل طفرات نوعية أو تحولات جوهرية، أو ثورات تمس البنية وتدفع بها إلى الأمام، بعد صهرها في بوتقة فكرية في إطار التجاوز ولذلك نادراً ما تعود هذه الأمم إلى الوراء لأنها تكون قد حسمت الجدليات والثنائيات وخرجت من حالات الإحباط والتكرار والسطحية التي تأكل الأخضر واليابس، ولذلك تمكنت هذه الأمم في غالبيتها العظمى من حسم قضايا من نوع علاقة الدين بالدولة، أو علاقة الدين بالسياسة، وعلاقة الإبداع بالرقابة والمواطن بالسلطة وعلاقة الأدب بالقيم، مثلما حسمت أيضا في النازية والفاشية واعتبرهما حالة استثنائية محاصرة بين قوسين في تاريخ أوروبا الحديث. في المقابل نحن نكاد نكون الأمة الوحيدة في العالم التي مازالت تدور في حلقة مفرغة، تكرر نفس الأسئلة منذ قرون عديدة، بل إننا نكون الأمة الوحيدة التي تدور حول نفسها ولا تتقدم في السياسة والمجتمع، فنحن ما نزال نبحث عن “هوية” وكأننا لا نعرف من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟؟ وهي لذلك تدور حول نفسها دون أن تقوى على التجاوز، ملفاتها جميعاً مفتوحة مثلما كانت دوماً مفتوحة منذ بداية عصر “النهضة” الموهوبة (حتى لا تقول منذ سقوط بغداد في 1257م على يد هولاكو)! وإلا كيف نفسر هذا الهزل المدهش المتعلق فهي معروفة، ولكن المحزن هو هذا الضيق الغريب في مساحات حرية الإبداع، وهي المساحات الوحيدة المتبقية أمام المثقف والأديب وهذا الحصار المضحك الذي أصبح السياسي أو الفقيه يناقش فيه رواية أو فقره من مسرحية أو بيتاً من شعر بناء على مرجعيات غير إبداعية فهل هذا عمل صحيح ؟! إذا كانت الشعوب الحيّة تعيش على وقع الأفكار الجديدة منذ خمسة قرون على الأقل، وإذا كان هؤلاء قد حققوا فتوحات لم يحققها الإسكندر المقدوني، فلأنه انقرض من بينها كل فمٍ مكمم، وكل حاجب مرتفع، وكل نقطة تعجب واستفهام. محاكم التفتيش عندهم صارت من تاريخ عصور يسمونها بخجل عصور الانحطاط، لكن مازال حرق الكتب طقساً من الطقوس العربية، ومازالت أصوات قادمة من عصور الظلام وعصور الانحطاط العربية تطالب بحرق الكتب، ولذلك لا عجب أن تكون الإضافات النوعية عندنا محددة. نحن اليوم واقع يدور حول نفسه ولا يتقدم ويمكن أن تذهب إلى أي مكان في وطنك العربي وتتجول في أي مكان فيه وتبقى عشرات السنين لتعود بعد ذلك إلى نقطة البداية لتجد أن دار لقمان على حالها، أمرنا مدهش لأنه أكثر تخلفاً في مجال التعاطي مع الإبداع من القرون الأربعة الهجرية الأولى من تاريخ العرب الذي شهد نهضة مدهشة ومثاقفة أكثر إدهاشاً وقدرة عجيبة على صهر الأفكار وقبول التنوع والاختلاف، بل إن عصرنا العربي يبدو اليوم أكثر تخلفاً من رواد النهضة الأولى والثانية، والدليل على ذلك أن عدد الكتب التي صودرت في النصف الأول من القرن العشرين لم يتجاوز الثلاثة، وهي”المنبوذ” لأنور كامل و«من هنا نبدأ” لخالد محمد خالد “وأولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، هذا في الوقت الذي كان للمؤسسات الدينية سطوة وللفكر الديني حضور ولعلمانية الدولة خجل، أما اليوم فإن وضعنا أكثر ازدراء، وعشرات الكتب صودرت في هذا النصف الثاني من القرن العشرين مصادرة ظالمة في أكثر الأحيان ومغشوشة في كثير من الأحيان، بل إن عدد الكتب التي صودرت في التسعينات من القرن الماضي - وهي إبداعية تحديداً- يتجاوز عدد الكتب التي صودرت في خمسين سنة- ولسنا هنا في حاجة إلى عرض القائمة لأن اليوم السابق توأم لليوم اللاحق وأن الأرض وحدها تدور، وحده التخلف ينمو ومساحات المنع تتسع. وحده الأدب المتسلق الذي عايشناه تهريجاً يرسمه موظفون ولا نهتم به، وحده يتوسع ويكتسح ساحات بدون جمهور وطبعات بالملايين لا يقرأها أحد إلى اليوم مازال نفس الموظفين والأدعياء والدعاة والكتاب يطلقون علينا نفس النعوت الركيكة بأننا لا نذوق ولا نتذوق ولا نفهم أدبهم وفكرهم السخيف السطحي، في الوقت الذي لايزالون يستخدمون تعابير الأدب المتسول المتقرب المسكين القائم على إراقة ماء الوجه تحديداً !!