بقلم - محمّد محمّد الخطّابي: أثار الكاتب الألماني غونتر غراس، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب العام 1999م، في الأيّام الأخيرة زوبعة من الانتقادات حوله من طرف إسرائيل وبعض المتعاطفين معها، وذلك على إثر نشره لقصيدته النثرية التي تحت عنوان: “ما ينبغي قوله”. أحدثت هذه القصيدة جدلاً واسعاً في بلده ألمانيا وخارجها، ويدين غونتر غراس فيها سياسة إسرائيل التي وصفها بأنّها تشكّل تهديداً حقيقياً للسلام العالمي. زوبعة في فنجان ويبدو أن الزوبعة التي أحدثتها هذه القصيدة لم يخمد أوارها بعد ، رغم التصريحات التي أدلى بها الأديب الألماني فيما بعد، والتي حاول بواسطتها تهدئة الموقف، حيث أشار إلى أن المقصود في قصيدته ليست إسرائيل بل حكامها الحاليين، وقال “غونتر” إن بلاده متواطئة في هذا الأمر؛ لأنها ما فتئت تقدّم الدعم العسكري لإسرائيل. وممّا جاء في هذه القصيدة؛ تساءل: لماذا وقد بلغ من السنّ عتيّاً، يدلي بما ينبغي قوله الآن؟ إنّه يفعل ذك -كما يقول- قبل فوات الأوان، ذلك لأنه يرى أن السلام العالمي الهشّ هو معرّض للخطر بالفعل، بسبب القوّة النووية لإسرائيل. أُتّهم الكاتب الألماني بمعاداة السامية، وتعرّضت قصيدته لانتقادات لاذعة داخل إسرائيل، ومن طرف المتعاطفين معها في العالم الغربي على وجه الخصوص. كما أُتّهم بأنه كان في شبابه منتمياً وموالياً للنازية منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، ولا عجب فالتخوّف الذي يشعر به غونتر غراس، والتوجّس الذي يعتمل بداخله، له أصوله ودوافعه، وجذوره ومبرّراته، إنّه يعتب على بلده التي أصبحت ثالث بلد مصنّع ومصدّر للأسلحة في العالم، والغوّاصات الفتّاكة الألمانية الصّنع التي تدعم بها بلده إسرائيل، سبق لها أن أقدمت على اقتراف كارثة إنسانية مؤسفة في تاريخ ألمانيا ذاتها، بهذا النّوع نفسه من الوسائل الحربية المدمّرة، وإن كانت في الماضي أقل فتكاً، وأقدم تكنولوجية، وأقلّ تطوّراً من التي نتوفّر عليها اليوم والتي أضحت تفوق كلّ خيال. فلا عجب إذن أن تثور ثائرته، وأن يقول “ما ينبغي قوله “ في نظره. لنرجع إلى أدب غونتر غراس وإبداعاته الأدبية، وبشكل خاص إلى روايته “على وتيرة خطو سرطان البحر” الصادرة العام 2002 م والتي تلقي الضوء بشكل أو بآخر على جذور هذه الزوبعة، التي مهما كبرت ومهما عظمت فإنّها تظل حبيسة “فنجانه” الذي يحتسيه مع غليونه الذي لا يفارقه. «على وتيرة خطو سرطان البحر» غونتر غراس يغوص في هذه الرواية في أعماق تاريخ بلاده ألمانيا، عندما كان الكاتب لمّا يزل في شرخ الشباب وريعانه، حيث يحكي لنا قصة غرق الباخرة الشهيرة “كوستلوف” بعد أن تعرضت لقصف من طرف غوّاصة سوفياتية العام 1945م، ومات نتيجة هذا القصف آلاف المدنيين الذين تتراوح أعدادهم بين ستة وعشرة آلاف قتيل، نصفهم من الأطفال، وأما عدد الذين نجوا من هذه الكارثة فيتراوح عددهم بين التسعمئة و 1239 مدنياً، وينتقل بنا “ غونتر غراس” في روايته “على وتيرة خطو السرطان”، إلى العام 1945م. ويضعنا أمام بحر مزبد متلاطم الأمواج تطفو على سطحه آلاف الجثث من ضحايا هذه الباخرة المنكوبة. وكان الكاتب الألماني قد صرّح في إحدى المناسبات خلال تقديمه لهذا الكتاب بالذات، أنه لم يجد بدّاً من وضع أحداث هذه الباخرة في قالب قصصي متسلسل مسلطاً الأضواء على ثلاث شخصيات في الرواية، وقال: إنه كان يفكّر منذ سنّ مبكّرة في نقل هذه الحادثة التاريخية إلى رواية، التي كان لها أثر بليغ في نفسه، وعلى بلده ألمانيا. وقد فعل ذلك انطلاقاً من شخصيات كانت لا تزال على قيد الحياة، عايشت هذه المأساة، منها امرأة مسنّة كانت حيّة ترزق، عند كتابته لهذه الرواية، وابنها الذي كان يبلغ 50 عاماً من العمر، وحفيدها الذي أصبح اليوم من اليمينيين المتطرفين. وقال: إنه اختار عنوان “على وتيرة خطو سرطان البحر”، لأنه يزحف أحياناً نحو الوراء، وقد راقبه في العديد من بلدان العالم، كما إنه يزحف بشكل منحرف أو مائل أو مزورّ نحو جهة ما، إلا أنه مع ذلك مثلما يعود القهقرى فإنّه يتقدّم إلى الأمام كذلك. وذكر أن السلاح الذي دمّر السفينة الألمانية هو سلاح ألماني، ذلك أنه من المفارقات الغريبة للحياة، أن الغوّاصة التي قصفت هذه الباخرة، كانت من صنع ألماني، وكانت ألمانيا قد باعتها للاتحاد السوفياتي قبل ذلك. أي أنّ ألمانيا جرّبت مدى قوّة وفتك سلاحها في جلد أبنائها. وكانت هذه الباخرة، موضوع رواية غونتر غراس، قد زارت ميناء” فيغو “بشمال إسبانيا العام 1939م، أيّ عندما حطّت الحرب الأهلية الإسبانية أوزارها لأخذ العديد من المواطنين الألمان الذين شاركوا في هذه الحرب منذ اندلاعها العام 1936م. عاشق الأشياء البسيطة واعترف غراس إنه تأثّر برواية الكاتب الإسباني” مانويل ريفاس”: (قلم رصاص النجّار)، التي تدور أحداثها حول الحرب الأهلية الإسبانية. وأنه استفاد كثيراً من قراءة هذه الرواية حول هذه الحرب الضروس، وتعلّم أكثر ممّا قرأه في كتب التاريخ نفسها. وقال غراس إنه لا تهمّه فقط الأحداث الكبرى التي يعرفها العالم، بل تعنيه كذلك الأشياء البسيطة في الحياة، ولهذا فإنه تتبّع بدقة متناهية في هذه الرواية حياة ثلاث شخصيات أساسية فيها تمثل ثلاثة أجيال متعاقبة، وهم النازي ويلهيلم كوستلوف الذي تحمل الباخرة اسمه، واليهودي ديفيد فرانكفورتر الذي اغتيل في سويسرا، والروسي ألكسندر مارينيسكو الذي عمل على إغراق السفينة، وقصة هذا الأخير تثير كثيراً من الفضول، إذ انتهى به الأمر في مراكز التعذيب التابعة للسجون السوفياتية وقضى حياته محاولاً إقناع الناس بأن يعترفوا له بأنه أبلى البلاء الحسن خلال الحرب، حيث لم يتمّ له ذلك إلا العام 1990م عندما كان قد مات. وقال “غونتر غراس إنه “ كتب هذه الرواية لينتزع جزءاً من تاريخ ألمانيا من مخالب وقبضة اليمين المتطرف الألماني، الذي عمل أتباعه على إعادة نبش هذه القصة من جديد، إلا انهم أذاعوا بشأنها العديد من الافتراءات والأكاذيب. وأضاف غراس أن القليل من مبادرات النازيين بهرت الطبقات الجماهيرية، وخير مثال على ذلك البرنامج الذي كان يعرف بشعار “نحو السعادة بالقوة”، حيث عملوا على إشراك العديد من العمّال الكادحين في رحلات بحرية استجمامية منظّمة على متن بواخر صُنعت على طراز “ كوستلوف”. ولم تكن هناك مظاهر للفوارق الاجتماعية على ظهر هذه المراكب، وكان النازيون سعداء كذلك لأنّ “هتلر” أمكنه توفير ما يزيد على 6 ملايين فرصة شغل للعاطلين. وسبق للكاتب غونتر غراس أن تعرّض لهذا الحادث المأساوي في كتـــــــابيــــــه السابقين “طبـــــــل الصفيح” (1959م) و«سنــــــــوات الكلاب”(1963م). وكانت الباخرة المنكوبة تحاول إبعاد آلاف اللاجئين الألمان من بروسيا الشرقية، التي كان بها الروس، عن شبح الحرب وأهوالها. ولقد كان بحر البلطيق مسرحاً لهذه المأساة التي ظلّت راسخة في ذهن الكاتب، تراوده في مختلف المناسبات التي يثار فيها الحديث عن الحروب وأهوالها، وأسلحتها المدمّرة الفتّاكة، ومن بينها الغوّاصات التي تصول وتجول في أيّامنا هذه في أعماق المحيطات، كأنّها حيتان فولاذية عملاقة مرعبة.