^ في سياق”غزوة الثقافة” التي أشرنا إلى تواترها في أكثر من بلد عربي تزامناً مع تصاعد تأثير بعض التيارات الدينية المتشددة في هذه البلدان يصبح الخوف من هؤلاء المتشددين، مشروعاً لأنهم اكتفوا بتغيير خطابهم السياسي ولم يغيّروا من خطابهم الثقافي، فهم يتحدثون اليوم عن الديمقراطية والدولة المدنية والاقتصاد الحر، ولكنهم عندما يصلون إلى مفردة الحرية يترددون كثيراً، وعندما يقفون على مشارف” الثقافة” بالمعنى الذي لا “يهضمونه” ولا “يدخل في نطاق معجمهم”، يتحصّنون بمنظومة المحرمات والمقدسات لتصبح هذه الثقافة خروجاً ومروقاً، بل و«خطراً يتهدد المجتمع والقيم والدين”، بل قد تصبح خطاً للنار. ثقافتنا عاشت باستمرار مهمشة مشدودة بين استبدادين مختلفين في الشكل متفقين في المضمون، مشدودة بين تطرفين: تطرف السلطة وتطرف المعارضة، تطرف الدينيين وتطرف العلمانيين، تطرف الحداثيين وتطرف المقلدين، في بداية النهضة العربية كانت المعركة فكرية تدور حول التنوير والتحرير، حول التقدم والتخلف، حول الحداثة والتمدن، ولكنها في النهاية -أي اليوم- تحولت باختصار سافر إلى معركة سيطرة وإخضاع. فإذا كانت السلط الاستبدادية قد حاولت إخضاع الثقافة بتجييرها وتجييرهم لخطابها، وعجزت في النهاية بالرغم مما أنفقته من جهد ومال، لأن الثقافة هي الحرية، فإن التيارات الدينية الصاعدة نحو السلطة قد حرصت على تقديم الإسلام كأيديولوجيا، وعندما نطالبها ببرنامجها تقدم لنا مفهوم الشريعة كمطلق، في حين أن السياسي نسبي، ولذلك فإن تعاملها مع الثقافة لا يمكن إلا أن يكون في نطاق الشريعة ومعيار ما تسميه الشرع، وهي لذلك لن تقبل أبداً أن تكون الثقافة “خارجة” بمعنى مارقة، وعليه كان لابد من “الغزوة” لمواجهة التنوير والحداثة بالمعنى الذي نفهمه والذي لا علاقة له بالتغريب. إن التنوير المنشود لا يعني القطع مع الماضي الذي يعتبرونه سبب تخلفنا، بل الحداثة الحقيقية تقتضي مواصلة تحرير الإنسان من الوصاية الدينية ومن الوصاية السياسية، من الاستبداد باسم الدين، ومن الاستبداد باسم السياسة، من استبداد اليسار الانتهازي، ومن استبداد اليمين المتعجرف، ومن الحداثة الجوفاء التي تكون مرادفة للحداثة الأوروبية نموذجاً مقدساً، ومن حداثة المزيفين دعاة الدولة الدينية - المدنية المركبة من الزيف والخديعة! إن الحداثة الحقيقية تتمثل في القطع مع الاستبداد بوجهيه الديني والسياسي للتحرر من التبعية الرمزية إضافة إلى التحرر من التبعية الفعلية في الاقتصاد والسياسة. وهو أمر لا يتحقق بالقطع مع الينابيع بل باستنهاض قوى الأمة بما يعنيه ذلك من طلب المعرفة وإنتاجها في المجالات العلمية والثقافية وتحقيق المواطنة في المجال السياسي بما يقتضي الحرية الكاملة للمواطن وللعقل، وأساس ذلك الحق في النقاش والتأويل ورفض أن تكون قراءة واحدة هي القراءة الوحيدة والنهائية والمقدسة. هؤلاء الذين يقودوننا نحو التسلط باسم الدين سيكون أخطر علينا من تسلط السياسيين، لأن السياسيين يمكن الخروج عليهم دون أن نتهم بالكفر، في حين لو ناقشنا “التسلط” باسم الدين، سوف يتم تصنيفنا كخارجين ومارقين، ومن هنا تأتي غزوات الثقافة وتطهيراً للمجتمع من المثقفين والثقافة باعتبارها كفراً أو أختاً للكفر في ظل ما تتعرض له من هجوم غير مسبوق لتحرير البلاد والعباد منها ومن “أهوالها وفضائحها ومفاسدها وكفرها ومروقها وخروجها عن الملة والنهج القويم، ويبقى بعد ذلك نصب محاكم التفتيش في الشوارع للتفتيش في الضمائر والقراطيس والنصوص والقصائد وألوان التشكيل..!!”. ومن هذا المنطلق على الثقافة من هنا فصاعداً أن تتحول إلى فعل مقاوم..