^ قال: إنك لتقصد كذا وكذا من وراء مقالك الذي كتبت؟ قلت: من حقك أن تفهم ما تفهم، فذلك شأن القراءة في جميع الأزمنة، ولكني ما قصدت ما أشرت إليه على الإطلاق، عندما كتبت ذلك الكلام، فالكاتب يبدي رأيه فيما تحمله اللغة من معان مباشرة وواضحة، لا تستدعي التأويل، أو النبش فيما ما وراء دلالة اللغة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالكتابة الصحافية التي لا ينشد من ورائها الكاتب إلا إبداء الرأي الواضح الدقيق في مسألة، أو إيصال رسالة، ومن ينشد ذلك لابد أن يكون واضحاً ودقيقاً، أما القارئ فهو يتلقى ما يكتب، وفقاً لآليات التلقي المعروفة، كما يتلقى وفقاً لما يمتلكه من جهاز التفكيك والتحليل لديه، وليس الكاتب مسؤولاً عن ذلك. إن إشكالية القراءة والكتابة على اتصال بالذات بقدر ما هي على اتصال بالمؤسسات، فإن نفكر نرى أن الخطاب هو أن نكون إزاء التقاطع بين الذات والمؤسسة، وبين المؤسسة والخطاب وبين الخطاب والسلطة، وذاك شرط بقائها جميعاً، إذ لا ينحصر الخطاب في حدود ما يظهره الكلام من معنى ولا ينحصر المعنى في حدود بنى العقل ومعاييره. التفكير هو فعل القراءة وفعل الكتابة مجتمعين والتفكير فعل خطير، والتفكير هو مشروعية القراءة والكتابة والخطاب، ولكن ما جدوى البحث في ظاهر الكلمات عن معنى قد يكون في النهاية تافهاً مادامت الحقيقة وكل حقيقة، حتى الموثوق بها وثوقاً علمياً، هي دائماً ظرفية متغيرة، ومادام الخطاب حول الخطاب يتحدث عن انهيار الأيدولوجيا ومغادرة اللغة سلطة الخطاب ومنطق اللامعنى..المقالات التي لا فرق بين أن تقرأها وألا تقرأها، إنها مأساة القراءة والتلقي عندنا، مثل مأساة الكتابة وهي مأساة وجود أولاً وأخيراً، فالمشكلة مركبة من أمية أبجدية حقيقية وعميقة، ومن جهل مركب، ومن فقر مركب واستهلاك عشوائي، فإن اعتمدنا أرقام اليونسكو فقط، ووثقنا بها، اكتشفنا أن نسبة الأمية الأبجدية في البلاد العربية قد تصل إلى 50% في المتوسط، تزيد أو تنقص من بلد إلى آخر، ومع مثل هذا الرقم، كيف يمكن أن نتحدث عن كتابة، فما بالك عن تلق. وثمة أيضاً إشكاليات طباعة الكتاب وتوزيعه وسعره، وهي معوقات حقيقية قاتلة بالمعايير التجارية والثقافية، وهنالك تراجع دور الدولة في العقدين الماضين عن دعم الكتاب، طباعة ونشراً وتوزيعاً، وهنالك اعتبارات تتصل بتكييفات هيكلية وانحسار دور الدولة الثقافي والاجتماعي ضمن إعادة جدولة الأولويات، وثمة أخيراً تراجع دور المدرسة في الاهتمام بالكتاب والقراءة، ولسنا هنا في حاجة إلى ترديد تلك الأطروحات المعتادة، حول طغيان ثقافة الصورة، وثقافة الاستهلاك وتراجع سلطة المكتوب، وتردي مكانة التلقي الثقافي إجمالاً، وهذا إذن هو الوجه الأخير للمسألة حول مدى استجابة المطبوع لاحتياجات الناس الفكرية والثقافية، فغربة المكتوب وابتعاده عن القيم الجماعية وإغراقه في الذاتية والهامشية والسطحية، وضعف الموهبة وقلة القيمة، من أشد أسباب إعراض المتلقين عن التلقي.. ^ همسة زَعموا أنَّ كاتباً مشهورًا قد جاء يومًا إلى أحد أصدقائه وهو حزين، فسأله الصديق عن سبب هذا الحزن العظيم؟ فقال له: تخيَّلْ - يا صديقي - أنني بعد عشرين سنة مِن الكتابة، تَيقَّنْتُ أنَّني لا أصلُحُ للكتابة على الإطلاق؟! فقال له الصديق حينئذٍ: وهل تَنوي إذن التوقف عن الكتابة ؟ فقال الكاتب: كيف وقد صِرْتُ مشهورًا كما ترى؟