علي الصديقي
أصدر الدكتور محمد جوهر كتاباً جديداً بعنوان «البحرين.. تاريخ من الريادة الصحية»، وقد دُشن الكتاب برعاية واهتمام من مركز الوثائق التاريخية التابع لمركز عيسى الثقافي.

والمؤلف طبيب مقيم للأسنان، حاصل على الزمالة من كلية الجراحين «أدنبرة»، وحاصل على البورد الألماني في زراعة جراحة الأسنان، والزمالة العليا في طب الأسنان «أدنبرة»، وعمل في الصفوف الأمامية متطوعاً في مواجهة الجائحة العالمية، فحظي مؤخراً بوسام الأمير سلمان بن حمد للاستحقاق الطبي، وهو أيضاً باحث في مجال تاريخ الصحة العامة وأخلاقياتها. ويعتبر كتابه الجديد من أحدث ما كُتب في تاريخ الأوضاع الصحية في البحرين، ومن خلال اطلاعي عليه وجدت من المناسب أن أناقش بعض أفكاره وفق ما يأتي:

1- تميّز الكتاب بالجدّة والأصالة من حيث عرضه لمعلومات ووقائع تُنشر لأول مرة حول تاريخ الصحة في البحرين، فقد تناول المؤلف سرده العلمي عبر تقطيع المراحل التاريخية إلى شرائح، كل شريحة تلحق بالأخرى، عبر سلسلة متواصلة من الأحداث المترابطة والمتواصلة، استعرض فيها تطورات القطاع الصحي أثناء مراحل زمنية في فترات حكم حكام البحرين من آل خليفة.

2- يتّسم الكتاب بالشمولية نظراً لطابعه الموسوعي، حيث تضمّن الكثير من المعلومات المركزة والمفصلة، في تطور مجالات القطاع الصحي: الإدارة، المستشفيات، القوانين، وغيرها. فالكتاب يعدّ أرضية جيدة للانطلاق نحو بحوث ودراسات أخرى تفصيلية، أو أطروحات علمية وأكاديمية كدراسة تاريخ الأمراض، أو تاريخ الإدارة الصحية، أو تاريخ الثقافة الصحية، أو تاريخ التشريعات الصحية، أو تاريخ الكوارث الصحية.

3- استخدم الباحث لغة جميلة ورصينة، وكانت شخصيته العلمية حاضرة، كما كان التماسك النصي والمنهجي سمة حاضرة في الكتاب. اعتمد على قائمة طويلة وموسّعة ومتنوعة من المراجع كالكتب والدوريات والنشرات والصحف القديمة والوثائق النادرة، الأمر الذي أعطى الكتاب قيمة علميّة كبيرة في واقع البحث التاريخي في البحرين.

4- اعتمد الباحث على رصد المتغيرات الجزئية التي تؤثر في الوعي الصحي العام التأسيسي، فتناول بعض الشخصيات المركزية والملهمة في عملية التحوّل في الوعي، دون أن يهمل الجذور الأولية في الطرائق والوسائل والمعايير الطبيّة الشعبية في عصر ما قبل الدولة البحرينية الحديثة.

5- إذا استحضرنا مؤلفات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، حيث كان لعمله التاريخي «ولادة العيادة» تأثير في توثيق رصد تحوّل الصحة العامة في أوروبا من كونها طابعاً فردياً نحو انتقالها إلى طابع مؤسسي، ذلك أنّ عملية بناء الدولة المنضبطة لم تقتصر على الشأن السياسي فحسب، بل ضمت شؤون اجتماعية ومعرفية أخرى، كصورة من صور تدخل الدولة في تقرير ما أسماه فوكو بــ»السلطة الحيوية/ البيولوجية». لقد وفق المؤلف في رصد عملية التحوّل البنيوي في البحرين وتحرك الهياكل الإدارية وتوسّعها.

فقد كانت فكرة «مأسسة الصحة» بمعنى تحولها من شأن شخصي فردي إلى شأن سياسي خاضع للنقاش العام، يحظى باهتمام الدولة، حاضراً بقوة في هذا العمل.

6- يرصد الكتاب قضية في غاية الأهمية، عندما تناول تاريخ المواجهة القانونية للأمراض والأسقام، وتعزيز قوانين الصحة العامة، وهو في رأيي بابٌ لا زال مفتوحًا للبحث والدراسة والتحليل. إنّ استعراض البنية التشريعية وتطورها، ينمّ عن تحول في فكرة الاهتمام بالصحة على أساس «منهج قائم على الحقوق» أي قضية حقوق. وليست قضيّة تبرعيّة أو مسألة تعاطف لحظي.

7- يتناول الكتاب، بتفصيل كبير، تشكل البنية التحتية للقطاع الصحي في البحرين من مستشفيات وأدوات ومراكز وتشعب هذه البنى المؤسسية. بيد أنه لم يُهمل «البنية الفوقية» وهي التي تتعلق بالناس والمجتمع والهياكل الاجتماعية والسياسية، فقد أشار الباحث بين الفينة والأخرى إلى الجوانب القانونية والإدارية والأخلاقية في قضية الصحة العامة وكذلك مؤسسات المجتمع المدني، كشكل من أشكال البنية الفوقية في المجتمع.

الكتاب الذي خطّ مقدمته ابن البحرين المُفكّر العربي الدكتور علي بن محمد فخرو، صدر في وقت مناسب جداً، بعد عامين من اندلاع جائحة كورونا. هذه الجائحة التي تعامل معها الفريق الوطني تحت قيادة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، تعاملاً بمسؤولية وطنية وإنسانية كبيرة، أرّخ لها الباحث في كتابه كممارسة إدارية ناجحة، حين تناول التطورات الاجتماعية والطبيّة والتفاعل الرسمي معها، وهو في تقديري أول كتاب بحريني يؤرخ لهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الأوبئة وسُبل التعامل معها.