خالد الرويعي

في عام ١٩٩١ يتأسس مسرح الصواري لتكون حركة التجريب الآن أكثر وضوحاً وتأثيراً، المؤمنون بهذه الحركة باتوا أكثر يقظة والجمهور أصبح أكثر توقاً لمشاهدة المختلف، والحركة المسرحية في البحرين يعتريها الصمت إلا من محاولة هنا وهناك، ولكن طول العقد التسعيني كان الصواري محط أنظار الجميع والوصفة السحرية لحركة الشباب الجديدة في المسرح.

حركة التجريب في البحرين كانت المؤثر الطبيعي للحركة الثقافية بأكملها، فلا يخلو قطاع ثقافي إلا وكان رواد الحركة التجريبية لهم دور بارز فيها.

على المستوى المعرفي والتدريبي والإعلامي وأشكال التناول من ناحية التوظيف الموسيقي والتوظيف الفني للمطبوعات وأشكال التنظيم للفعاليات كان شباب حركة التجريب لهم اليد الطولى في كل ذلك.

هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الفنية فلقد اقترنت حركة التجريب بمسرح الصواري الذي يرجع له الفضل في إثارة الأشكال الفنية الجديدة في المسرح معرفياً وتقنياً، وله الفضل في بث الحياة على الحركة المسرحية عبر تدريب الشباب الجدد وتأسيس مهرجان الشباب الأول خليجياً كحالة خارجة عن النظم المؤسساتية التقليدية، فرفع بذلك حس الذائقة الفنية المختلفة، وفتح النوافذ عَلى الأشكال المتعددة في المسرح، فبرزت عبره المفاهيم الجديدة حول المسرح محلياً وعربياً وكان منها أن يذيع صيته عربياً كأحد أهم الحركات المسرحية في البحرين ويبرز أيضاً كحالة نقدية متأصلة في تاريخ المسرح العربي، فباتت عروضه يكتب عنها برؤى نقدية ودراسات فأسس له جمهوراً مختلفاً بطبيعته الذوقية والحسية.

في هذه الفترة كان تأسيس هذه الفرقة يمثل انقلاباً في الوعي الجماعي بالمسرح على صعيد المشتغلين وعلى صعيد الجمهور. فلأول مرة في تاريخ المسرح في البحرين يتم تصنيف الجمهور باعتباره (جمهور الصواري) حتى طالت الاتهامات بأن الصواري أبعد الجمهور عن صالات العرض باعتبار أن عروضه غامضة وغير محببة للجمهور. أضف إلى ذلك إلى أن هذه الفرقة قوضت مفهوم الإنتاج في المسرح.

فلم تعد هناك مشكلة في الإنتاج المسرحي إذ ركز على مسألة المسرح الفقير كحالة إنتاجية وكحالة اصطلاحية.

الشيء الآخر وهو الأهم، كانت الساحة المسرحية تعاني من الشيخوخة فلجأ المسرح إلى تأسيس أول مهرجان تنظمه فرقة أهلية للشباب الهواة. خصوصاً بعد توقف مهرجان الأندية عام ١٩٩٤ ومهرجان المسرح المدرسي عام ١٩٩٤. وبحسب توصيف الناقد الراحل محمد البنكي لذلك هو أن شباب الصواري كانوا هم الملمح الرئيس في حراك المشهد الثقافي فتراهم في المسرح ومعارض الكتاب والفعاليات الثقافية. حتى وصل إنتاج الفرقة للعروض خلال عشر سنوات إلى أكثر من ٥٠ عرضاً مسرحياً.

في هذا العقد ورغم تأثر الفرق الأخرى بالحركة المسرحية الجديدة يحافظ مسرح أوال على إنتاج العروض الضخمة إنتاجيا وجماهيراً. ففي عام ١٩٩١ يستمر عرض مسرحية «سوق المقاصيص» إلى حوالي ٤٠ ليلة وهو رقم لم تعتده الساحة المسرحية في البحرين. فمسرح أوال بحسب الخبرة الإدارية يملك هذه المقومات الإنتاجية.

أما مسرح الجزيرة فانتهج أسلوب الكيانات الثابتة. فكانت العناصر الإدارية والفنية هي ذاتها لعشرات السنين مما يرخي العجلة ويجعلها تقف إلى الأبد.

في النصف الآخر من العقد التسعيني جاء تأسيس فرقة أخرى وهي جلجامش التي تأسست باعتبارها فرقة استعراضية على يد مجموعة من الشباب الذين يمارسون الرقص المرافق في المسرحيات. إذ كانت ظروف تأسيس الفرقة غير واضحة المعالم إلى أن تم التوجه باعتبارها فرقة مسرحية حالها كحال الفرق الأخرى.

رسمياً عزز قطاع الثقافة والتراث الوطني بوزارة الإعلام آنذاك المشاركات الخارجية عبر المهرجانات والملتقيات في الوطن العربي لكن الحدث الأبرز هو تنظيم الحلقة النقاشية عن المسرح في البحرين في 14-16 سبتمبر 1997 وعلى مدار ثلاثة أيام بنادي البحرين. وكان من إحدى ثمار هذه الجلسة إعادة مسابقة التأليف المسرحي وتدشين مسابقة العروض المتميزة التي سترى النور في مع بداية الألفية الجديدة.

على الصعيد الطلابي، ساهم نادي المسرح بجامعة البحرين الذي تأسس عام ١٩٩٠ في رفد الحركة المسرحية بالعديد من العناصر الطلابية، إذ شهدت الجامعة أعمالاً مسرحية متواصلة كان لها تأثير داخل الجامعة وخارجها وذلك بعد الاتفاق مع الفنان إبراهيم خلفان ليكون مشرفاً خاصاً على نادي المسرح بالجامعة.

الأندية هي الأخرى عاصرت تحولاً نوعياً، فبعد أن كانت تقدم عروضها في المهرجان الذي تنظمه المؤسسة العامة للشباب والرياضة آنذاك. وجدت الأندية نفسها معرضة للركود إلا نادي مدينة عيسى على وجه الخصوص الذي كان محافظا على نشاطه المسرحي. فكان عام ١٩٩٤ آخر دورات المهرجان.

أما مهرجان المسرح المدرسي الذي استمر حوالي ١٦ عاماً فشهد هو الآخر آخر عهده بالمهرجانات عام ١٩٩٤. فكانت الأنشطة المسرحية مقتصرة على مبادرات المدارس التي ترغب إداراتها بإنتاج العروض المسرحية بالإضافة إلى المشاركات الرسمية للوزارة في مهرجانات المسرح الخليجي.

الانحسار الغامض «2001 - 2011»

في هذا العقد شهدت البحرين الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فكان أهمها تدشين مشروع جلالة الملك الإصلاحي الذي فتح المجال للكثير من التغيرات. فكان الانفتاح شاملاً على عدة أصعدة وكانت شهية المجتمع منفتحة إلى أبعد الحدود.

ثقافيا وفنياً كان الذهول هو الوصف الأمثل أمام كمية المتغيرات الحاصلة. فمسرحياً لم تنخرط الفرق المسرحية في هذا الانفتاح الحاصل حتى بدا أنها غير معنية وهي تشاهد الانحسار الجماهيري من صالات العرض والتوجه إلى صالات الجمعيات السياسية. لقد بدا المشهد مربكاً بالنسبة إليهم. حتى جمهور النخب الذين كانوا يملؤون الصالات ذهبوا بلا عودة إلى مشاغل السياسة. فكان الغموض يلف هذه المرحلة.

قل إنتاج الفرق المسرحية ولم يكن مفهوماً حينها لماذا؟ المسرحيون أنفسهم انصرفوا إلى العمل البلدي والسياسي ولم تكن هناك بوادر للعودة. في حين أن الفترة الذهبية كانت ماثلة أمامهم من انفتاح على تأسيس الكيانات الجديدة من ناحية وتجديد التشريعات والقوانين من ناحية أخرى.. فكانت البلد على استعداد أصلاً لكل هذه المتغيرات التي أرساها المشروع الإصلاحي.

في هذا العقد يتراجع إنتاج الفرق المسرحية. لكن من الناحية الأخرى ينظم قطاع الثقافة والتراث الوطني بوزارة الإعلام جوائز التميز للأعمال المسرحية طوال العام وهي إحدى مخرجات الحلقة النقاشية عام 1997م، فيما يبدأ مسرح أوال بتأسيس مهرجانه السنوي عام ٢٠٠٥.

لكن قبل ذلك وفي عام ٢٠٠٤ تبدأ أولى تداعيات رحيل مسرح الجزيرة عن المشهد المسرحي في البحرين وتحوله إلى مركز ثقافي عام ٢٠١٣.

أما في العام ٢٠٠٥ تدفع وزارة الإعلام بتأسيس فرقتين في ذات الوقت وهما مسرح البيادر ومسرح الريف الذي جاء تأسيسهما كثمرة لتوجه الدولة في تأسيس الكيانات المدنية وضمن توجهات المشروع الاصلاحي لجلالة الملك. وفي العام نفسه وربما يكون الحدث الأبرز في هذا العقد هو افتتاح الصالة الثقافية كأحدث صالة مجهزة للعروض المسرحية في المنامة عوضاً عن صالة البحرين الثقافية في مدينة عيسى.

عام ٢٠٠٧ تتنادى الفرق المسرحية بدعوة من مسرح الصواري لتأسيس اتحاد خاص بالفرق المسرحية الأهلية الذي أشهر عام ٢٠٠٨. وهو العام الذي تنادت فيه المؤسسات الثقافية الأهلية ومن بينها المسارح إلى مؤتمر «الثقافة في البحرين – واقع وتطلعات»، وذلك خلال الفترة من 11-12 مايو بنادي العروبة والتي خرجت بعدة توصيات أيضاً في إشارة إلى أن هذه المؤتمرات كتب عليها أن تقام كل عشرة أعوام.

وزارة التربية والتعليم تعود عام ٢٠٠٦ بتدشين مهرجانها للمسرح المدرسي كنشاط طلابي على عكس المهرجان ذاته في الثمانينيات، فصارت العروض تقتصر على الفترة الصباحية فقط. لكن على صعيد آخر شهد هذا العقد توقف الأعمال المسرحية بمركز سلمان الثقافي بعد عدة أعمال على مستوى مسرح الطفل أو مسرح العرائس والذي كان له دور كبيرا في رفد الحركة المسرحية بالناشئة من المسرحيين..

تعويض النقص «2011 - 2021»

يجوز للمتتبع أن يسمي هذا العقد بعقد المهرجانات. وهو أمر قد يلفت الانتباه إلى مسألة مهمة وهي تعويض النقص.. لقد انتبه المسرحيون إلى مغادرة الجمهور لصالات العرض في العقد الثاني فصار لزاما -من دون قصد- أن تكون احتفالية المهرجانات كأسلوب لجذب الجمهور من جديد.

لكن قبل استمرار وتيرة المهرجانات وزارة الثقافة آنذاك تعلن عن افتتاح مسرح البحرين الوطني في العام ٢٠١٢ تحت رعاية جلالة الملك المعظم الذي يعد الأول في البحرين من حيث الحجم والكفاءة والتصميم المعماري.

حيث فاز في العام ٢٠١٥ بجائزة الشرف في الهندسة المعمارية والتي تقّدمها المؤسسة الأمريكية لتكنولوجيا المسارح (USITT)، إذ تم اختيار المسرح الوطني لنيل الجائزة وذلك لتصميمه الاستثنائي الذي يجمع ما بين إبداع الحاضر وعراقة الماضي.

في هذا العقد مهرجان أوال مستمر في دوراته. أما مسرح الصواري فهو يستأنف مهرجانه الشبابي في ٢٠١٢ بعد انقطاع دام لمدة ١٢ عاماً تقريباً ولكن هذه المرة بمشاركات خارجية حتى إعلان القائمين عليه ليصبح دولياً في العام ٢٠١٨. أما مسرح جلجامش فيبادر إلى تأسيس مهرجان الديودراما لمدة دورتين فقط.

على صعيد المؤسسة الرسمية فوزارة الشباب والرياضة تطلق عام ٢٠١٥ مهرجان خالد بن حمد للمسرح الشبابي كبديل عن مسرح الأندية الذي توقف في تسعينيات القرن الماضي مما شجع الكثير من العاملين في المسرح والأندية على وجوه الخصوص إلى العمل في دورات المهرجان لكن هذا المهرجان لم يكتب له الاستمرار سوى لخمس دورات فقط.

لكن اللافت في هذا العقد هو إعادة احياء اتحاد المسرحيين عام ٢٠١٨ بعد غياب استمر لثماني سنوات وفق نظام أساسي جديد ومشاورات امتدت لعام كامل. ونتيجة لذلك نظم الاتحاد وبتمويل من الهيئة العربية للمسرح نسخته الأولى من مهرجان البحرين المسرحي الذي يعتبر الأول في تاريخ المسرح في البحرين.

أما في عام ٢٠٢٠ فمسرح أوال يحتفل بمرور خمسين عاماً على تأسيسه. لكن الأهم هنا هو اتخاذه لقرار بناء مقره الجديد كلياً كجزء من مشروع استثماري يعود بالنفع للفرقة ذاتها. وفي العام نفسه تنشر الجريدة الرسمية قرار هيئة البحرين للثقافة والآثار بإشهار مركز إنكي للفنون الأدائية كأول مركز أهلي في الخليج العربي.

.. وماذا بعد!

كل ذلك السرد، تنبع أهميته من كونه يعيد ترتيب التاريخ فنياً بالدرجة الأولى وتوثيقياً، ولو كانت الحركة المسرحية تملك أرشيفاً وطنياً لكانت القراءة النقدية أكثر تأصيلاً وثراءً، ولهذا سيتحتم علينا دائماً إنعاش الذاكرة إذا ما أردنا أن نرى حركة المسرح في البحرين.

إن «القرن المهيب» ليس مجازاً بل حقيقة، لأنه شهد في داخله كل ما يمكن أن يمرّ به مشروع ثقافي من شغفٍ وانطفاء، من نهوضٍ وسكون. قرنٌ كتبه المسرحيون بعرقهم، وأدوه بأجسادهم، ونحتوه في ذاكرة المجتمع بصدقهم. قرنٌ لم يمرّ دون أثر، لأن المسرح في البحرين لم يكن حدثاً عابراً.