ا.د. جهان العمران

قصة جميلة مؤثرة ترددت على مسامعنا كثيراً، وفيها عبرة وحكمة بالغة عندما نظم الشاعر أبو إسحاق الغزي بيتاً شعرياً محيراً سائلاً: «مالي أرى الشمع يبكي في مواقده، من حرقة النار أم من فرقة العسل»، ولما عجز الجميع عن معرفة الجواب قامت إحدى الصحف بطرح مسابقة شعرية للبحث عن الجواب، فجاءت بعض الإجابات لتبرر أن سبب الدمع هو حرقة النار، وإجابات أخرى اختارت السبب في أنه فرقة العسل.. إلى أن تصدى للجميع الشاعر المبدع وهو صالح طه ليختصر الحكمة كلها في عبارة مؤثرة قائلاً: «من لم تجانسه فاحذر أن تجالسه، ما ضر بالشمع إلا صحبة الفتَل» أي أن سبب نزول دموع الشمع هو ملازمة شيء ليس من جنسه وهو الفتيل الذي يجعله يحترق ويذوب. وكانت النتيجة أن فاز هذا الشاعر بالجائزة. هذه المسابقة تبدو في ظاهرها لعبة شعرية، لكنها تفرز دروساً للحياة، من أعمقها أن الصداقة الحقة تقوم على الانسجام الروحي والتوافق في الطباع، لا على مجرد القرب المكاني أو تكرار اللقاءات.

فالإنسان، مهما ظن نفسه قوياً، يتأثر بأصحابه ورفاقه، ويأخذ من طباعهم وأفكارهم أكثر مما يلحظ. والروح بطبيعتها تميل إلى من يشبهها في الجوهر، وتجد الراحة عند من يشاركها قيمها ونظرتها للحياة. فالصديق الذي يوافقك في المبادئ يختصر عليك كثيرًا من الشرح والتبرير، ويفهمك حتى في صمتك، بينما الصحبة التي لا تجانس روحك تُشعرك أنك تسبح ضد التيار، تُرهقك في محاولات التكيف، وتستهلك منك طاقة كان الأولى أن تبذلها في النمو لا في الصراع.

الصداقة الحقيقية ليست أن يتشابه الأصدقاء في كل شيء، فالتنوع في الخبرات والاهتمامات يمنح العلاقة عمقًا وحيوية، لكن القاعدة الذهبية أن يكون هناك انسجام في القيم التي توجه القرارات والمواقف. فمن يشاركك إيمانك بالصدق لن يضعك في موقف يخدش ضميرك، ومن يرى الجمال في الصفاء لن يدفعك إلى ما يعكر روحك.

كثيرون يعتقدون أنهم قادرون على تغيير أصدقائهم بمرور الوقت، لكن التجربة تثبت أن التأثير متبادل، وأنك إن لم تحرص على محيط يشبهك في جوهره، فإنك ستتأثر عاجلًا أو آجلًا، وربما تجد نفسك تتبنى أفكارًا أو عادات ما كنت لتقترب منها لولا الصحبة التي فتحت لها الباب. ولهذا جاء التحذير من مجالسة من لا تجانسهم تحذيرًا من أن تخسر نفسك وأنت تحاول التعايش مع ما لا يناسبك.

الصديق الذي يشبهك في الروح يشاركك الفرح بلا حسد، ويقف معك في الشدة بلا مصلحة، وينصحك حين تخطئ بحب لا بجرح، وينتشلك من محنتك لا ينتظر لحظة سقوطك فوجوده يضيف إلى حياتك، ولا ينتقص منها. أما الصديق الذي يختلف معك في الجوهر، فالعلاقة معه إما ساحة شد وجذب أو حقل ألغام من المجاملات، حيث تتنازل كل مرة عن شيء من نفسك لتجنب الصدام، حتى تجد أنك لم تعد أنت.

الحياة أقصر من أن نقضيها بين أشخاص يجعلوننا غرباء عن أنفسنا. ابحث عن أولئك الذين يمنحونك شعورًا بالانتماء الروحي، والذين يلونون أيامك بما تحب، لا بما يفرضونه عليك. هؤلاء هم التربة الصالحة التي تنمو فيها جذورك بثبات، وتثمر فيها روحك بالخير والطمأنينة.وفي النهاية، تبقى الحكمة التي خرجت من تلك المسابقة الشعرية صالحة لكل زمان: من لا تجانسه فاحذر أن تجالسه، فالصديق الذي يشبهك هو النور الذي يضيء دروب حياتك دون أن يحرقك.

* أستاذة جامعية في علم النفس