د. رنا الصيرفي

عندما ذهبت إلى وارسو، قام أحد الأصدقاء بأخذنا في جولة في المدينة، وأحد المعالم التي وقفنا عندها كانت مبنى كبيراً ومميزاً. وهنا شرح لنا أنَّ هذا المبنى موجود وبنفس الشكل في كل دولة كانت في الاتحاد السوفيتي، وأنَّ البعض يطالب بهدمه، وعندما سألته عن السبب قال إنَّهم يريدون محو أي صلة لهم بالاتحاد السوفيتي.

هذا الحوار نقلني إلى حالة نفسية نعيشها أحياناً، وهي الرغبة في هدم أو محو أي شيء يذكّرنا بمرحلة صعبة في حياتنا. إنَّها آلية دفاعية تهدف إلى حمايتنا من إعادة معايشة الألم. إنَّ العقل، في محاولته للحفاظ على بقائنا النفسي يعتقد أنَّ بإزالة كل ما يذكرنا بتلك المرحلة ستزول المشاعر المرتبطة به. هذه هي «استراتيجية البتر العاطفي»، وهي فعّالة على المدى القصير لعزل الألم، لكنّها تحمل في طياتها تكلفة باهظة على المدى الطويل.

عندما «نهدم» جزءاً من ماضينا، نحن لا نمحو التجربة فقط، بل نمحو الدروس القيمة التي تعلمناها، والقوة التي اكتسبناها ونحن نسعى لنتجاوزها، والحكمة التي تشكلت في أساساتها. عملية الهدم تخلّف فراغاً في سردية حياتنا، فجوة تجعلنا أقل تكاملاً وأقل فهماً لمسارنا.

الطريقة الأكثر نضجاً هي عملية «وضع معنى» لما حدث. بمعنى آخر، نقرُّ بوجود الذكريات الأليمة ونعترف بتاريخها المؤلم، ولكننا نختار بوعي تحويل وظيفتها. فعندما تتحول التجربة إلى مصدر للحكمة، تصبح ذات قيمة ليس للفرد وحده، بل للآخرين أيضاً. مشاركة قصتنا، ليس من منطلق الشكوى، بل من منطلق القوة والتعلّم، تُحرّر التجربة من سجنها الفردي وتجعلها منارة للآخرين الذين قد يمرون بنفس الظروف. فتصبح قصتنا دليلاً على أنَّ النجاة والنمو ممكنان.

وأحد الأمثلة على ذلك هي نادية مراد، الفتاة الإيزيدية التي هاجم تنظيم داعش قريتها، وقتل معظم رجال عائلتها، وخُطفت هي وأخريات، وتعرّضت لأبشع أنواع الانتهاكات. كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل، لكنَّها استطاعت الهروب بعد شهور من الأسر وهي تحمل معها قصة ثقيلة لا تستطيع كثير من النساء روايتها. لكن ما فعله الألم بها كان مختلفا..

بدل أن تحاول أن تنسى، قررت أن تتكلم. بدأت تروي ما جرى معها ومع آلاف النساء الإيزيديات اللواتي لم يكنّ قادرات على الكلام. ومن تلك الآلام وُلد مشروعها «نادية مراد العالمية». تحولت قصتها من مأساة شخصية إلى حركة عالمية لحماية النساء في مناطق النزاع.

إنَّ التعامل الصحي مع الماضي لا يعني نسيانه أو محوه، بل يعني تكامله في قصة حياتنا بطريقة تخدمنا وتمكننا. الماضي، بكل ما فيه من جمال وألم، هو الأساس الذي نقف عليه اليوم لنبني مستقبلاً أكثر وعياً وقوة.