بسم الله الرحمن الرحيم
"تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير• الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور"
فالحياة حق والموت حق، ويبقى الإيمان العميق بالله جل وعلا يعزز الثقة في كل ذلك، ويقدم العزاء للمحزونين ويدعم صبر الصابرين، وإنه لمما يعزّ على الأنفس ويحزن الأفئدة انتقال الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة إلى الرفيق الأعلى ومفاصلته للعالم الفاني، ولعل استرجاع الثقة بما بعد ذلك من نعمة مواصلة النعيم الرضواني في كنف وجوار الرحمن الرحيم مما يهون على النفس هذا المصاب الجلل... ولكن يبقى أسى الفراق حاضراً في الوجدان، وألماً عميقاً يعتصر الفؤاد، ويبقى الموت حقاً يأتي فجأةً من دون مقدّمات؛ ليسرق الفرح، ويغير معطيات الحياة، ويخطف الأحبّة ويغمر قلوبنا بالأحزان، ويلفنا بصمت وسكون، عبر قدر محتوم لا نملك له تغيير... فما الإنسان إلا لحظات تمر عبر اللحظات، ودقائق عبر الدقائق، وساعات عبر الساعات، أيامٌ تمر، وأسابيع تجري، وشهور تنقضي، وسنين تمضي على حساب العمر الذي يتسرب من بين عجلات الوقت وطيات الزمان... ليبقى الإنسان علامةً على سطور الحياة، بما يحمله من وعي وإدراك لمعنى أن يكون على قيد الإنسانية في هذه الحياة... ولعل من الموجع أن ندرك بأن حقيقة الحياة هي الوجه الآخر الذي تنطلق منه حقيقة الموت، فهاهو الموت أصبح اليوم واقعاً لا رجعة فيه... وليس للنفس المفارقة لأعزتها إلا أن تستشعر معنى الفناء عندما تفارق روحاً عزيزةً عليها، وكأن الغياب هو الذي يلامس شغاف القلب بأطراف أصابعه... فقد كان وقع الصدمة شديدًا على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي، كما وكانت مفاجاة الرحيل صدمةً أصابت الجميع بالذهول، ورغم الإيمان العميق بأن الموت حق، إلا أن طوفان الحزن الجارف اكتسح أمامه كل سدود الصبر والتماسك، فقد فارق الحياة والدٌ حنون وركن ركين وسند متين يحمل العبء ويحمي ويصون ويدعم ويساعد ويذلل الصعوبات بشجاعة وهمّة الذين لا يهابون ولا يترددون، همّة لا تعرف الوهن ولا الفتور، كما ويحمل بين جنباته تاريخًا يعود لأسرة كريمة وأجداد أفذاذ لهم بصمات عظيمة في تاريخ الخليج العربي، اكتسب منهم خبرةً وحكمةً امتدت على مدى سنوات عمره التي عاصر خلالها أواخر حكم الشيخ عيسى بن علي ومن ثم الشيخ حمد بن عيسى والشيخ سلمان بن حمد والشيخ عيسى بن سلمان وصاحب الجلالة الملك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه...
وتبقى وفاة من نغلّيه ونحبّه ونعزّه تحزّ في النّفس وتغمر المشاعر فتكتنف العقل ألف ذكرى وألف حدث وألف حكاية، وكأنها ذات الأوقات بكل الذكريات، ورغم أن ثرى البحرين قد وارى سموه رحمه الله قبرًا، إلا أنه مازال رغم غيابه حاضرًا دومًا بسماحة وجهه وطيبة قلبه وإنسانيته في قلوب الأحباب... فرحماك ربّنا، نؤمن بقضائك وقدرك ولا حول ولا قوة إلا بك، و"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"...
لقد تشرفت بمعرفة الوالد سمو الشيخ عبد الله طيب الله ثراه عُمرًا طويلًا بل أكاد أقول عرفته العمر كله، فعرفت فيه أبًا عطوفًا ورجلًا كريمًا حكيمًا عزيزًا، رجلًا يتسع قلبه الكبير للجميع على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، ويستوعب برجاحة عقله أعتى المشاكل وأصعبها، وذلك بوعي عميق وبذكاء فذ مشهود، فإذا هي في عز اشتدادها قد حُلّت؛ بما يضع النقاط على الحروف وبما يُرضي الجميع، وذلك بحسم مغلف بالحب، وبحزمٍ مغمور بالعطف الأبوي الذي ينسكب بلسمًا على قلوب الجميع، حيث كان سموه رحمه الله عنصرًا فاعلًا في تقريب وجهات النظر، وفي جعل الأيادي المختلفة تمتد في ود للمصافحة، وهو ما ينبع من قدرته الفذة على جعل الأعداء أصدقاء، وعلى تحويل الغضب إلى رضى، فكان أن حُلّت على يده الكثير من الخلافات واختفت الكثير من المعوقات وتذللت الكثير من الصعوبات التي قد تجهض وحدة المسيرة وتعطل الانطلاقة المنشودة...
هذا ولازال ذلك الطريق الممتد والحافل الذي شرفني بالعمل لدى سموه على مدى ثلاثة عقود زاخرًا بالكثير، وأحمد الله الذي أتاح لي فرصة التقرب منه طيب الله ثراه ومعايشة نشاطاته وأعماله وحكمته وحديثه وهدوءه الذي تعلمت واكتسبت منه الكثير من الخبرات المهمة الحياتية والعملية، وذلك فضلًا عن حضوري اليومي لمجلسه العامر لأعوام طويلة؛ عايشت خلالها سموه رحمه الله وشهدت الكثير من مواقفه الناصعة وكفيه الممدودة بالعطاء والكرم والسخاء للجميع دون استثناء، والتي طالت كل منحى من مناحي الحياة جودًا وكرمًا،، كما ولمست في عين الوقت إنسانيته الفريدة، وذكاءه الفطري، وعمق نظرته المستقبلية، وحكمته الأصيلة وقدرته الفذة على حل المعضلات واحتواء أصعب المواقف، فضلًا عن عطائه المنقطع النظير، وشغفه العميق بحب البحرين وأهلها، والعمل على كل ما من شأنه أن يحقق خيرها ورفعة مكانتها، وذلك إلى جانب ما تجلى لي واضحًا من خلال معايشتي لسموه رحمه الله وهو مدى حبه للإنسان بغض النظر عن أية اعتبارات، وحرصه الدائم على رسم البسمة وإسعاد المحتاجين والبسطاء، ورغبته في أن ينعم الجميع بحياة كريمة مستقرة، ما حملني مسؤولية السير على دربه والتأسي بأفعاله، والاقتداء به واستحضار مواقفه الجليلة، وانجازاته التي تعد ثمرًة لفكر سموه رحمه الله الذي نجح في ترسيخ ثقافة العطاء الجارف التي تؤصل في النفس حبًا كبيرًا للبحرين التي أفنى حياته في خدمتها، وأطلق نهرًا دافقًا سيظل يتدفق حاملًا الخير لربوع البحرين والعالم العربي والإسلامي...
كما وكان سمو الوالد الشيخ عبد الله طيب الله ثراه رجلًا بحرينيًا عربيًا مسلمًا مخلصًا محبًا للخير، ارتبط اسمه بالكرم والخير والشهامة التي تؤكد أصالة منبته وروعة خصاله وكرم أخلاقه، ومن هنا نراه عضوًا مؤسسًا وفاعلًا في العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية والإنسانية، والتي مدت جسور العطاء للمحتاجين وقدمت خدمات جليلة لقطاع عريض من الناس في كل مكان، بالإضافة إلى المبادرات الخيرية التي عمّت المجتمع البحريني، كما وكان سموه رحمه الله يستجيب دومًا للأزمات، ويمد يد العون للجميع دون تفريق، ويترفع ويسمو فوق الصغائر والخلافات، ويضع النواحي الإنسانية والوطنية دومًا في مقدمة أولوياته، كما تميز سموه طيب الله ثراه وهو بذلك القدر الرفيع والمنزلة الجليلة والفضائل الكثيرة، بكونه علمًا في التواضع؛ فلم أره يومًا يردّ من لجأ إليه طالبًا العون كائنًا من كان، ولم يوصد بابه أبدًا، إذ كانت أبواب مكتبه ومجلسه مفتوحةً للجميع، يقصدها كل من يحتاج النصح والمشورة، وكل من لديه طلب أو حاجة، وكان طيب الله ثراه يستمع إليهم ويؤنسهم بحكمته وطيب نصحه ويظلهم بأبوته وسعة قلبه...
وإلى جانب ذلك فقد أرسى المغفور له بإذن الله تعالى الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد طيب الله ثراه بخصاله الكريمة مفهوم الخير ورسخه بتلقائيته الفريدة في المجتمع، كما توّج بسلوكه الراقي قيمة العطاء وغرسها في نفوس الجميع، فالخير والعطاء كانا منهجًا في حياته رحمه الله اختطّ من خلالهما طريقًا للعمل الخيري والإنساني، الأمر الذي شكّل انعكاسًا لمسيرة طويلة بدأها سموه رحمه الله وقدّم خلالها جليل الأعمال في مرافق الخير والإصلاح والعمران، كما وجعل من سموه طيب الله ثراه رمزًا وطنيًا وإسلاميًا كبيرًا، له مآثر ومناقب كثيرة وجليلة في العديد من المجالات كالقضاء والإدارة والتخطيط والعمل الإنساني والدعوة إلى الخير، كما ويعدّ رحمه الله من كبار رجالات العائلة الحاكمة في مملكة البحرين، ومن ذوي الاهتمام بالشأن الثقافي والعلمي، ومن أصحاب الخبرة المميزة في مجال التاريخ والثقافة الشعبية، وذلك إلى جانب ما له من مجموعة ثرية من المؤلفات المهمة حول دور البحرين عبر التاريخ ومكانتها في التاريخ الإسلامي، فضلًا عن مؤلفاته التوثيقية لتاريخ آل خليفة الكرام في البحرين...
وقد تقلّد سموه رحمه الله العديد من المناصب وتولى العديد من المهام والمسؤوليات، وكانت له بصمة في كل مكان، حيث شغل سموه رحمه الله منصب قاض في محاكم البحرين أوائل الخمسينيات، ومن ثمّ تدرّج في القضاء ليصبح في أوائل الستينيات قاض بمحكمة الاستئناف العليا، ومن بعدها صار رئيساً لبلدية الرفاع ثم رئيساً لبلدية المنامة، كما كان لسموه طيب الله ثراه دورًا رئيسيًا في عملية إنشاء التخطيط العمراني للمدن، حيث تولى سموه مبادرات عملية التخطيط الرسمي لمدن ومناطق البحرين وذلك من خلال عمله رئيساً لمجلس تنسيق التخطيط في الفترة مابين عامي 1968م/1975م، وإليه يعود الفضل في تأسيس ورئاسة جمعية الهلال الأحمر في العام 1971م. كَمَا وتقلد سموه طيب الله ثراه عدّة مناصب وزارية؛ منها وزيرًا للبلديات والزراعة 1971م/1975م، ومن بعدها وزيرًا للعدل والشؤون الإسلامية 1975م/2002م، حيث لعب دورًا بارزًا في تطوير العمل والتشريعات في المحاكم الشرعية والمدنية وفي شؤون الأوقاف الإسلامية وأموال القاصرين، وذلك فضلًا عمّا اختص به الجوامع والمساجد من عناية خاصة ومحبة خالصة، وكان طوال حياته مولعًا بإنشائها وعمارتها وصيانتها... كما وعمل سموه كذلك نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للشؤون الإسلامية 2002م/2006م، وفي العام 2007م تولى رحمه الله منصب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ورئيسًا لمركز عيسى الثقافي في 2008م، ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن فكرة تأسيس مركز عيسى الثقافي تنسب إلى سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه...
وفضلًا عما سبق فقد ترأس سموه مركز الوثائق التاريخية في العام 1978م، ليصبح بعدها رئيسًا لتحرير مجلة "الوثيقة" التاريخية منذ أول صدور لها من المركز في العام 1982م، حيث كانت لسموه رحمه الله بصمات واضحة فيها حتى أضحت مجلة الوثيقة مرجعًا تاريخيًا محكمًا لجميع طلاب العلم والباحثين والدارسين في مجال لتاريخ، وقد كان لوالدي المؤرخ الدكتور علي أباحسين شرف العمل مع سموه رحمه الله في مركز الوثائق التاريخية وفي مجلة الوثيقة، وبعد ذلك تولى سموه منصب الأمين العام للأمانة العامة لمراكز الوثائق والدراسات بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وذلك في العام 1985م/2006م ليصبح بعد ذلك الرئيس الفخري لَهَا... وفي العام 2001م وحين طرح جلالة الملك المفدى مشروعه الإصلاحي وشكل لجنةً عليا لصياغة ميثاق العمل الوطني، فقد أناط رئاستها لسمو الشيخ عبدالله بن خالد طيب الله ثراه وذلك تقديرًا له ولإمكانياته الإدارية والفكرية المميزة، وللمكانة العالية التي يتمتع بها سموه، فضلًا عن توافق جميع أطياف وألوان الشعب البحريني حول شخصيته الفذة ودوره المحوري...
هكذا كان الوالد سمو الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة طيب الله ثراه، أنفاسه توقفت، ولكنّ مواقفه وأعماله وإنجازاته ماتزال باقيةً تتنفس، ومايزال سموه حيّا فى قلوبنا بسيرته العطرة وعطائه اللامحدود... وسيبقى سموه شامخًا شموخ إنجازاته الكبيرة وخلقه العظيم وستبقى ذكراه العطرة حيّة عزيزة في وجدان البحرين وأهلها الأوفياء وجميع من عرفه... وستبقى مواقفه الجليلة التي سجلها له التاريخ كثيرة... وإنا لنعلم بأن رحيله قد ترك فراغًا كبيرًا... رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وأنزله منازل الصالحين والأبرار، وإنا لله وإنا إليه راجعون...
وإننا إذ نعزي أنفسنا وأمتنا في فقيدنا الراحل فإننا نتقدم بخالص العزاء وأحر المواساة إلى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وإلى أنجاله الكرام الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله آل خليفة رئيس المجلس الأعلى للصحة، والشيخ خالد بن عبد الله آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء، والشيخ ابراهيم بن عبد الله آل خليفة وإلى أحفاده وذويه والعائلة المالكة الكريمة، وعزاؤنا في أن أبناءه وذريته الكرام قد تشربوا منه رحمه الله روعة خصاله وكرم أخلاقه، وإنسانيته، سائلين المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم أهله وذويه وجميع محبيه الصبر والسلوان...
الدكتور خلدون علي أباحسين
باحث أكاديمي وكاتب