د. فهـد حسيـن - الحلقة الأولى النهضـة العربيــة

- د. فهد حسين: المثقف عاش ظروفاً قاسية بعد الأحداث العربية في 2011

- الشعوب العربية تأثرت بالثورات مطلع القرن العشرين

- المجتمع العربي بحاجة بنقد ذاته وتحليل المواقف المرتبطة بالحياة

- نحتاج إلى قراءة نقدية للمشهد الثقافي والأدبي العربي

..

عاش المثقف العربي كبقية أفراد المجتمع في ظروف قاسية ومتشعبة ومتشظية بعد الأحداث التي وقعت لبعض الدول العربية في العام 2011، وأدت إلى تفتيت المجتمع أفرادًا وجماعات، وتباينات في الفكر والتطلع والتوجهات العقائدية والفكرية، ولكن سيظل الوضع كما هو إذا هربنا من المشكلة وتقوقعنا في دائرة الاكتفاء بالذاتية والمصلحة الشخصية، وهذا يعني المزيد من انهيار البنى التحتية، وتكاثر الأوبئة التي كانت ولاتزال تعصف بعالمنا منذ ذلك التاريخ، حيث دمرت الأحداث المجتمعات العربية، وأفسدت النفوس، وتشعبت الأهواء، وظهرت المصالح الشخصية والفئوية.

لذلك علينا جميعًا ومن يدعي الثقافة الوقوف مليًا تجاه ما يحدث، والإقدام على تقييم حالة المجتمع العربي وما وصل إليه، من هنا رأيت أنه بات على كل كاتب ومثقف القيام بمراجعة دقيقة لتلك الأحداث، وما وصلت إليه مجتمعاتنا، وما ينبغي على الموقف القيام به في السياق الفردي أو المجتمعي أو المؤسساتي.

كل فرد في المجتمع له دور بشكل أو بآخر، بحسب المجال والتخصص والمستوى العلمي، أو الأكاديمي أو الفني أو المهاري، ولكن لا يوجد تخصص باسم المثقف، إذ هذا المرء الذي نوسمه بالمثقف امرأة أم رجلاً قد يكون واحدًا أو جامعًا لأكثر من مجال.

لذا فالمثقف يملك العديد من المفاتيح والأدوات العلمية والفكرية والتحليلية التي تمكنه من ربط ما هو ماضٍ بالحاضر والمستقبل وفق مجموعة من الرؤى والسياقات المختلفة، ولكن لا ينبغي تجاهل أبعاد الثقافة، إذ إن " أبعاد النظرية الثقافية تعمد على الإجابة عن سؤالين. الأول: من أكون؟ والثاني: ما الذين ينبغي عليّ القيام به "([1]).

تأثرت الشعوب العربية بالثورات والحركات الثورية والنضالية في العالم العربي في مطلع القرن العشرين، فحينما كنا صغارًا وتلاميذ في المرحلة الابتدائية أواخر ستينيات القرن الماضي تعلمنا معنى العروبة، ومعنى أن تكون عربيًا، في الانتماء والهوية واللغة والتفكير، وحفظنا النشيد الذي يتغنى بالوطن العربي، (بلاد العرب أوطاني من الشامي لبُغدان، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان)، وإن كان مفهوم العروبة قد نشأ في حضن الدين الإسلامي، أو بهاجس الدين، لما للغة العروبة من تقديس، باعتبار أنها لغة القرآن الكريم، إلا أن العروبة لا تخص العرب المسلمين وحدهم، وإنما كل عربي مهما كان دينه وتوجهه.

ولهذا فإن أقرب ما يمثل العروبة هو معرفة الماضي الذي عاشه الآباء والأجداد، بوعي وقراءة فاحصة، مع معرفة تاريخ الأمة العربية وما تعرضت له، وما هي عليه الآن، مع الوقوف على حاضرها، وعلى كيفية يمكن الاستفادة من الماضي لعيش الحاضر وبناء المستقبل، في ضوء التربية القادرة على بناء الشخصية العربية، وعلى تحدي الصعاب، المعنية برسم الاستراتيجيات والخطط، فلا ينبغي التشدق بالعروبة ونحن بعيدون عنها، وعن أهداف الإنسان العربي وطموحاته التي تجعله في مصاف الأمم والأقوام المتقدمة، " فالبشر هم كائنات تاريخية، والتاريخ هو الوسيط الأكبر بين وجودنا الشخصي ووجودنا الطبيعي "([2]).

وهنا يتطلب منا جميعًا البحث عن أسرار وخبايا هذا الوسيط، والإحاطة بما يحمله من تراث وتركات وترسبات من جهة، وحضارة وثقافة من جهة أخرى، بغية الوصول إلى كشف رموزه وأسراره، وما آلت إليه الأمة العربية، وكذلك ما تحتضنه من مقومات مختلفة، وهذا يعني أن المجتمع العربي بحاجة ماسة إلى نقد ذاته، وتحليل العديد من المواقف المرتبطة بالحياة والواقع والماضي والمستقبل. إلى نقد في الأنماط الاجتماعية والإرث التاريخي لكي نقف على ما يتمظهر من تركة، وحضارة فُسرت نصوصها وأدبياتها بصور شتى أسهمت بعضها في تردي أوضاعنا الحالية.

إن العقل العربي من الملاحظ، وبحسب التطورات الحادثة في العلوم الاجتماعية والمعلوماتية فينقسم هذا العقل إلى العقل الفردي المتمثل في ذات الفرد، والعقل الجمعي المتمحور في الجماعة وما تفكر فيه تجاه المجتمع نفسه والعالم، والعقل الآلي الذي بات حاضرًا ولا يمكن التخلي عنه في سياق الثورة المعلوماتية، بل لا يمكن للعقل العربي الخروج عن منظومة التفكير الذي رسمها لنفسه عبر التجارب والخبرات، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا العقل "يعيش أزمة وتهميشاً مما ضمر إنتاجه، وتفشت الأوبئة من شبه علمية، وزيف علمي ولا علمية إلى حد الخرافة "([3]).

وفي الوقت نفسه لا يقدم العقل الجمعي مساهمات ثقافية وفكرية إلا من خلال مكتسباته التراثية والموروث الفكري الذي لا يقبل الانفصال عنه، ولا غربلته، لذلك يصطدم بما هو جديد الذي يلتفت إلى الواقع الاجتماعي المهمش لانتشاله وتحديثه وتطويره اجتماعيًا وسلوكيًا وثقافيًا.

وهذا يعني أن "حضور النهضة في المجتمع العربي والإسلامي حضور الوعي وتكثيف آلياته في حياة الإنسان، والرغبة الحقيقية في تطوير الذات وتوسيع آفاقها المعرفية والاستفادة من معارف الآخرين وإنجازاتهم، مع استحثاث الجهود الداخلية وعوامل النمو الذاتية في الجسد العربي "([4]). ولكن قد تتخلل كل هذا ما يوكده على حرب من الأوهام المستوطنة في الذهن وتعرقل الحراك المجتمعي والنشاط الثقافي والاجتماعي، من هذه الأوهام: الوهم الثقافي المرتبط بالنخبة، الوهم الأيديولوجي المرتبط بالحرية، والوهم الأناسي المرتبط بالهوية، والوهم الماروائي المرتبط بمفهوم المكانية وكذلك الوهم الحداثي المرتبط بالتنوير([5]).

ويكمن لدى العديد من مثقفي عصر النهضة إن لم نقل جميعهم النظر إلى تجارب الدول والشعوب وكأنها تغطي قومية ما، بمعنى أن الوقوف آنذاك على "التجارب كان من منطلق قومي، نقول: التجربة البولندية، التجربة الفرنسية، وهذا يميل إلى الإخلاص للهويات القومية الأساسية "([6])، ولكن هل هي الطريقة المثلى للتواصل مع الآخر؟ وهل هي الآلية التي يتم عبرها الاحتكاك بالثقافات الأخرى؟ أو بالمجتمعات والثقافات غير التي في مجتمعك؟

وبالعودة إلى التاريخ العربي والإسلامي نجد تشكل الدول العربية الإسلامية تكونت من خلال القوة السياسية التي سيطرت على مقاليد الحكم والسلطة السياسية، فظهرت الدولة الأموية، الدولة العباسية، ومع ضعف الدولة الأخيرة لأسباب عدة، برزت الويلات الصغيرة في بعض المناطق العربية، مثل: الدولة الفاطمية، الدولة الحمدانية، الغزنوية، الأيوبية، الدولة الأموية في الأندلس، وغيرها من هذه التكتلات.

وعلى الرغم من هذا فإن الاتساع والامتداد كان من نصيب هذه الدول شرقًا وغربًا، بل استطاعت أن تكون لها حضارة وثقافة داخل حدودها الجغرافية وخارجها، بسبب ما كانت تملكه من قوة وتماسك، ولكن المشروع الذي بنته هذه الدول والدويلات أصيب بالانهيار والتشتت.

وهنا نشير إلى أن كلما تشتتت الجهود العربية بين دوله لم تستطع السلطات السياسية ردم الفجوات والثغرات التي تحدث هنا وهناك، وبين زمن وآخر، فما نادى به رواد النهضة في القرنين التاسع عشر والعشرين راح في تخلخل واضمحلال، أصبح دورها أكثر صعوبة في حضورها الدولي حضاريًا وثقافيًا، على اعتبار أن أية دولة ضعيفة لا تتمكن من تصدير أو تسويق ثقافي لثقافتها عند الآخر، والعكس يحدث للدولة القوية، وهذا ما نتج عنه مفهوم العولمة التي نادت بها أمريكا، واستطاعت أن تفرضها بالوسائل المختلفة والوسائط المتنوعة، وبالفكر، مما جعلنا اليوم العيش في ظل عصر الثورة المعلوماتية والعالم الافتراضي، والتفاعل الترابطي، والتواصل الإلكتروني، أليس هذا جزءًا من البناء المجتمعي للعولمة الثقافية؟

ويبدو أن التراجع الواضح الذي حصل للثقافة القومية العربية، لعدم وجود رؤية واضحة من قبل الساسة، والمثقفين والمفكرين تجاه الحراك الثقافي العربي داخل وخارج الوطن العربي، حيث التحديات التي تواجهها الثقافة العربية كثيرة، وأهمها الإجابة عن سؤال الهوية، والتحرر من عقدة النقص والاستلاب من جهة، وعقدة العظمة والانغلاق من جهة أخرى، إذ يبقى الإنسان العربي في أسر حالة من الانفصام الثقافي، وانفصال الفكر عن الواقع المعيش "([7])، بل ليس هناك رؤية لجمع شتات هذه الدول العربية تحت الفكر والثقافة، في الوقت الذي كانت هناك جهود كبيرة تجاه القضية الفلسطينية وإن حدث لها بعض التراجع، ما يعني أننا نحن العرب بحاجة ماسة إلى حالة حقيقة من التطور الاجتماعي والثقافي، وإلى الأنماط والأبنية التي ترتبط بهذين التطورين، وهو ما يتطلب " إعادة ترتيب كاملة للمسرح الثقافي الذي لا يمكن فهمه إلا من منطلق تاريخي "([8]).

ومن المعضلات التي يحاول بعض أفراد المجتمع أن يضعها عقبات في مسيرة المجتمع وتحولاته، وبناء جسور التواصل والمعرفة بالآخر، وهي عدم الرغبة في السعي نحو التنوع الثقافي، وكأن هذا يشكل تهديدًا في بنية المجتمع الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية، وحيث يعطي هذا التنوع بعدًا معرفيًا وحضاريًا وثقافيًا فإنه يسهم في تطوير المجتمع وتعديل سلوك أفراده، ويفتح آفاقًا جديدة تجاه عجلة التقدم، من دون أن يعلم هذا البعض أنه يغلق على نفسه فاعلية التواصل.

وفي الجانب الآخر نجده يجلس بالساعات يتنقل من موقع إلكتروني لموقع آخر، من قناة تواصل اجتماعية لأخرى بغية الدخول في عالم من المهاترات والحكايات السطحية والبحث عن الملذات اللغوية والشهوات اللفظية، وكما يقال الحديث في "القيل والقال"، ومبتعدًا عن " الثقافة وإن كانت حالة خاصة تعكس أحوال مجتمع ما، ولكنها في جانب آخر هي حالة ممتدة، ومنفتحة على المجتمعات الأخرى، بعُدت أو قرُبت فهي تأخذ وتعطي، وتوثر وتتأثر، وتتشكل من هذا الاتصال والتواصل، فثقافات الأمم على مدى عصور التاريخ نتغذى من بعضها البعض "([9]). وهنا حينما يسمح هذا البعض لنفسه الإبحار عبر ميديا التواصل الاجتماعي كيف يضع العقبات تجاه عالم التواصل الثقافي والحضاري، إلا إذا كان هذا البعض ضعيفًا، ولا يملك قدرة المحاورة، واثبات قيمة ما يحمله من فكر وتطلع يبني من خلالها لبنة في المجتمع.

كما أننا بحاجة إلى نقد في المنحى الفلسفي الذي يتطلب أيضًا قراءة المقولات الفلسفية وتحليلها، وتفكيك بناها، وفي الوقت نفسه نحتاج إلى قراءة نقدية للمشهد الثقافي والأدبي العربي، وتلك النصوص الأدبية المختلفة التي يصب بعضها في تأجيج المأساة العربية ثقافيًا، وبهذا فإن الأمر يدعو إلى الوقوف عند السياق الاجتماعي في فضائه الصحفي والإعلامي الذي يشكل خطرًا محدقًا إذا لم نقم بمراجعته ودراسته فنيًا وتقنيًا، وعلميًا وبنيويًا وثقافيًا، حيث الأثر في المجتمع يكون فادحًا لما للبعد النقدي من أهمية تجاه السياقات الدينية والأيديولوجية والعقائدية؛ لأننا في هذه المرحلة التاريخية من الواقع العربي تفرض علينا أن نجدد في بنية عقولنا كمطلب ثقافي حتمي، وأن يتصف هذا التجديد بالوعي والابتكار والاستشراف، ويؤدي دورًا عبر المبادرات والمعرفة والتواصل، لا أن يبقى العقل العربي حبيس التقليدية والسطحية والفردانية والسلبية([10]).

واجهت أوروبا العديد من المشكلات والقضايا التي أثرت عليها سلبًا، وكانت الأسئلة تطرح في كيفية الخروج من أزماتها، " فكيف يمكننا اقتراح تعريف لأوروبا معتمدًا على وحدتها الثقافية، في حين أن أوروبا تمثل التفرد والخصوصية الشديدة للهوية القومية التي تأكدت وواجهت بعضها البعض على مر القرنيين التاسع عشر والعشرين؟ "([11])، وسعت إلى إبقاء ادين في الكنيسة وذهبت الدولة ومؤسساتها المختلفة نحو العمل الذي أوصل أوروبا إلى ما هي عليه الآن.

إن تلك الدول الأوروبية التي كانت حضارتها ليست وليدة الصدف والتحولات المفاجئة والتطورات غير المنتظمة، وإنما هي حضارة ذات شأن كبير في مجالات الفكر والثقافة والحضارة والفنون والآداب، ومن خلال مفكريها فلاسفتها وكتابها عبر العصور والأزمنة، مثل: أنا كسمندر وسقراط وأفلاطون وأرسطو وهوميروس وأرخميدس وفيثاغورث وأبيقور وجاليليو وغيرهم الكثير، ولم تكن منجزاتهم في صناديق الذاكرة مخزنة، وإنما كانت في ساحات التعليم والعمل والواقع المعيش آنذاك، حتى ظهرت الشرائح المثقفة من الطبقات الاجتماعية المختلفة بعد ما كان لرجال الدين السطوة الكبرى في حراك المجتمع البطيء وتراجعه الواضح إذ " ظهرت طبقة المثقفين وساقت الدين إلى داخل الكنيسة، وأحكم عليه الرتاج "([12])، بل لو عدنا إلى الوراء وفي تلك الحقب التاريخية القديمة، وتأملنا مقولات ميكافيلي لعرفنا كيف كان يفكر مليًا تجاه صنع مجتمع مدني، حيث " كان آنذاك يعي أن الكنيسة بمزاعمها القديمة، لم تعد قادرة على أن توفر إطارًا ما للنشاط السياسي، فبقي موضوع فن الحكم ميدانًا شاغرًا لم يعد من الممكن تنظيمه بمبدأ عام من مبادئ الشرعية، أما القتل والخداع والعنف والأنانية فهي وحدها التي كانت تقدم محفزات للفعل "([13]).

[1] - أرثر أيزابرجر، النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة، ص114.

[2] - ناصيف نصّار، نحو مجتمع جديد – مقدمات أساسية في نقد المجتمع الطائفي، ص13.

[3] - نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة، ص60.

[4] - محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، ص153-152.

[5] - انظر: على حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، ص27.

[6] - إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، ص138.

[7] - مجموعة من الباحثين، ارتدادات الربيع العربي – ربيع العرب ما له وما عليه، ص55.

[8] - إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، ص138.

[9] - أحمد الفلاحي، حول الثقافة، ص35.

[10]- انظر: نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، ص165 – 166.

[11]- جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص320.

[12] - علي شريعتي، مسئولية المثقف، ص66.

[13] - جون إهرنبرغ، المجتمع المدني – التاريخ النقدي للفكرة، ص124.