عماد المختار
اغتراب الجاليات وجه آخر للحكاية، حكاية وجعها لا يعلمه إلا من عاشه.. الاغتراب حكاية نعيشها قبل أن تكون حالات اجتماعية ونفسية، يبحثها علم الاجتماع ويحللها علم النفس، ويقولون إنها نتيجة عدم استقرار نفسي وأسري ومادي، فهم يستشعرون أنهم مرغمون على العيش بعيدين عن أمكنة ولادتهم وتفاصيل حياتهم الطفولية، ومحيطهم الاجتماعي، كأنهم مقتلعون عن جذورهم. وهذا الواقع الذي يلازم المغتربين يترك آثارا نفسية سيئة واجتماعية خطيرة، وتنعكس حسب درجة التفاعل الثقافي والاجتماعي، على حياتهم وحياة أبنائهم، بل يتعدى تأثيرها إلى بيئة العمل والمجتمع البحريني، حيث يعيشون. ورغم أن البحرين صنفت ضمن الوجهة الأولى المفضلة للمغتربين في العالم، و أن 9 من كل 10 وافدين (يمثلون نسبة 87%) قالوا إنهم سعداء بحياتهم في البحرين، وهي بلد يقدم لهم كل ما يحتاجون إليه، وفقًا لتقرير المسح لفائدة موقع “إكسبات إنزيدر” لسنة 2017، يبقى للغربة وجود قوي في فكر الجاليات ووجدانها.. ويبقى الاغتراب وجها آخر للحكاية.
يذكر مصطفى البرنس، وهو مصري مقيم من عشرين سنة في البحرين، أن "الشعور بالغربة ظل يلازمني طول هذه الفترة، رغم أن الحياة بالبحرين جميلة وآمنة وظروفي المادية والاجتماعية طيبة. ولكن الغربة تبقى غربة". ويضيف البرنس "إنها عمليّة صعبة للغاية وتجربة قاسية.. وامتحان كبير.. صراحة أنا فشلت في هذا الامتحان". وختم البرنس بمثل شعبي "الغربة كربة .. والألم فيها يصل للرقبة".
ويذكر عبدالقادر الجميعي تونسي مقيم بالبحرين: "أنا موجع.. لأني بعيد عن أبنائي، عن أمي التي تفتقدني في اليوم ألف مرة، ويشتد وجعي حين أشاهد وأنا في الغربة وأتذوق طعمها وأتجرع مرارتها، أرى أبناء وطني من الشباب يدفعون أموالا لضمان هجرة غير شرعية إلى الدول الأوروبية".
ويقول وليد السيد ( مصري) : "حين جئت كان هدفي تحسين ظروف أسرتي المعيشيّة هربا من الفقر والبطالة لأني كنت أعيش ظروفا قاسية، كرهت فيها نفسي وبلدي وكل من حولي، ولكن الحمد لله، تحسنت أوضاعي المادية كثيرا في سنوات إقامتي بالبحرين، ولي علاقات ممتازة في العمل وخارجه، ولي أصدقاء بحرينيون ومن كل الجنسيات العربية. وكان اعتقادي أن كل هذه العوامل تنسيه الإحساس بالاغتراب، لكن للأمانة "قلبي على مصر".
وتحدث عادل الهاني ( تونس) وهو موظف بقطاع حكومي بالبحرين عن واقع أبنائه عند عودتهم في الإجازة الصيفية إلى تونس منذ عشر سنوات تقريبا، قال: هناك تكون لهم علاقات اجتماعية كبيرة، مع أفراد الأسرة الموسعة أو مع أبناء الجيران، بينما علاقاتهم محدودة في رياض الأطفال أو بالمدارس. وأضاف الهاني أنه يظل نهاية كل إجازة يقنع أبناءه بالعودة إلى مكان عمله، وقال: "صراحة نحن أنانيون.. نفكر في أنفسنا في استقرارنا المادي وحياتنا في العمل، ولا نفكر في عواطف أبنائنا وأحاسيسهم"، لافتا أن أبناءه ينعمون بكل أسباب الراحة بالبحرين في دراساتهم، وفي طلعاتهم الترفيهية، ولكن للأطفال كما يقول: "عالم آخر لا ندركه نحن الكبار، بل ندركه ونتجاهله، للأطفال حياتهم، علاقاتهم، ميولاتهم.. هم يستشعرون الغربة أكثر منا".
وذكر بسام إسماعيل وهو مقيم مصري أن غربته تزداد وتتعاظم كلما فكر في مستقبل أبنائه، فهم الآن في مراحل عمرية مختلفة، ومنهم المولود بمصر ومنهم المولود بالبحرين، والمشكلة في تداخل اللهجات على ألسنتهم، فلا هم أتقنوا اللهجة البحرينية ولا هم أجادوا اللهجة المصرية، ما أحدث إرباكا لنا جميعا سواء بمصر أو بالبحرين. "وفي النهاية تركناها على الله" كما يقول. وتحدث أبو خالد يمني يعمل في مكتب عقارات عن واقع تعليم أبناء المغتربين، وخاصة من جنسيات آسيوية مححدة ممن تكون اللغة العربية ليست اللغة الأم، فهؤلاء لا يذهبون بعيدا في التعليم، إذ سرعان ما ينقطعون مبكرا عن الدراسة، ومن هنا تبدأ معهم مشاكلهم، فلا هم عادوا إلى موطنهم الأصلي بحكم عمل الأب، ولا هم اندمجوا في المجتمع البحريني، وأفادوه بخدماتهم.
وما يزيد ويضاعف معاناة الوافدين هو خوفهم على استقرارهم الوظيفي، يقول أبو ياسين وهو مدرس: لي سبع سنوات بالبحرين، كل سنة أعتبرها الأخيرة، خوفا من التسريح والتفنيش"، ويضيف أن هذا الأمر جعل الشعور بالاغتراب مضاعفا، فأنا أعيش بعيدا عن أسرتي بمصر، فلا شعور باستقرار أسري لأني أعيش بعيدا عن أسرتي، ولا شعور باستقراري الوظيفي، خوفا من فقدان عملي". وتابع " أن كلفة المعيشة ارتفعت بالسنوات الأخيرة، ولم يعد أعد قادرا على توفير مبلغ، فالراتب بين اللإيجار والكهرباء والمصاريف اليوميية".
ويتحدث محمد كبير وهو بنغالي عن معاناته مع الغربة، قال إنه "يغسل سيايير"، بعد أن تم طرده من شركة تنظيف كان يعمل بها منذ خمس سنوات، وعن سبب طرده يقول أنه مع مجموعة من البنغاليين والفلبينيين في نفس الشركة لم يتسلموا رواتبهم من ثلاثة أشهر، ومنهم أربعة أشهر، وحين طالبوا برواتبهم لدفع الإيجار والأكل طردوا. وأضاف بلكنة بعربية "أنا ما فيه مخ.. أنا ليش جاي بحرين.. عشان شغل.. عشان أكل.. والحين ما فيه أكل.. ما فيه شغل.. شو أسوي.. أن إنسان.. ما فيه إحساس.. أرباب ما فيه إحساس.. أنو أنا إنسان".
ويضيف شارك قاسم وهو باكستاني يعمل في "السفريات" أن مشكلة اندماج أبنائهم مع الجاليات الأخرى يبقى محدودا، فلا هم منفتحون على الجاليات الأخرى، ولا هم مشاركون في برامج ثقافية ورياضية وترفيهية إلا في إطار الجالية الوحدة، إضافة إلى أن تدريس أبنائهم تمثل مشكلة لدى الجاليات الآسيوية، فهذه الجالية ذات العدد الكبير بالبحرين النسبة العظمى منها تعمل بمجالات دخلها ضعيف كالخدمات والإنشاءات، ولا يقدرون على تعليم أبنائهم بالمدارس الخاصة.
تلك هي حكاية الجاليات.. وكلنا شخصيات الحكاية.. ووجه آخر للحكاية.. حكاية تبدأ ولا تنتهي.. ولا حصانة لأحد من دور في الحكاية.
{{ article.visit_count }}
اغتراب الجاليات وجه آخر للحكاية، حكاية وجعها لا يعلمه إلا من عاشه.. الاغتراب حكاية نعيشها قبل أن تكون حالات اجتماعية ونفسية، يبحثها علم الاجتماع ويحللها علم النفس، ويقولون إنها نتيجة عدم استقرار نفسي وأسري ومادي، فهم يستشعرون أنهم مرغمون على العيش بعيدين عن أمكنة ولادتهم وتفاصيل حياتهم الطفولية، ومحيطهم الاجتماعي، كأنهم مقتلعون عن جذورهم. وهذا الواقع الذي يلازم المغتربين يترك آثارا نفسية سيئة واجتماعية خطيرة، وتنعكس حسب درجة التفاعل الثقافي والاجتماعي، على حياتهم وحياة أبنائهم، بل يتعدى تأثيرها إلى بيئة العمل والمجتمع البحريني، حيث يعيشون. ورغم أن البحرين صنفت ضمن الوجهة الأولى المفضلة للمغتربين في العالم، و أن 9 من كل 10 وافدين (يمثلون نسبة 87%) قالوا إنهم سعداء بحياتهم في البحرين، وهي بلد يقدم لهم كل ما يحتاجون إليه، وفقًا لتقرير المسح لفائدة موقع “إكسبات إنزيدر” لسنة 2017، يبقى للغربة وجود قوي في فكر الجاليات ووجدانها.. ويبقى الاغتراب وجها آخر للحكاية.
يذكر مصطفى البرنس، وهو مصري مقيم من عشرين سنة في البحرين، أن "الشعور بالغربة ظل يلازمني طول هذه الفترة، رغم أن الحياة بالبحرين جميلة وآمنة وظروفي المادية والاجتماعية طيبة. ولكن الغربة تبقى غربة". ويضيف البرنس "إنها عمليّة صعبة للغاية وتجربة قاسية.. وامتحان كبير.. صراحة أنا فشلت في هذا الامتحان". وختم البرنس بمثل شعبي "الغربة كربة .. والألم فيها يصل للرقبة".
ويذكر عبدالقادر الجميعي تونسي مقيم بالبحرين: "أنا موجع.. لأني بعيد عن أبنائي، عن أمي التي تفتقدني في اليوم ألف مرة، ويشتد وجعي حين أشاهد وأنا في الغربة وأتذوق طعمها وأتجرع مرارتها، أرى أبناء وطني من الشباب يدفعون أموالا لضمان هجرة غير شرعية إلى الدول الأوروبية".
ويقول وليد السيد ( مصري) : "حين جئت كان هدفي تحسين ظروف أسرتي المعيشيّة هربا من الفقر والبطالة لأني كنت أعيش ظروفا قاسية، كرهت فيها نفسي وبلدي وكل من حولي، ولكن الحمد لله، تحسنت أوضاعي المادية كثيرا في سنوات إقامتي بالبحرين، ولي علاقات ممتازة في العمل وخارجه، ولي أصدقاء بحرينيون ومن كل الجنسيات العربية. وكان اعتقادي أن كل هذه العوامل تنسيه الإحساس بالاغتراب، لكن للأمانة "قلبي على مصر".
وتحدث عادل الهاني ( تونس) وهو موظف بقطاع حكومي بالبحرين عن واقع أبنائه عند عودتهم في الإجازة الصيفية إلى تونس منذ عشر سنوات تقريبا، قال: هناك تكون لهم علاقات اجتماعية كبيرة، مع أفراد الأسرة الموسعة أو مع أبناء الجيران، بينما علاقاتهم محدودة في رياض الأطفال أو بالمدارس. وأضاف الهاني أنه يظل نهاية كل إجازة يقنع أبناءه بالعودة إلى مكان عمله، وقال: "صراحة نحن أنانيون.. نفكر في أنفسنا في استقرارنا المادي وحياتنا في العمل، ولا نفكر في عواطف أبنائنا وأحاسيسهم"، لافتا أن أبناءه ينعمون بكل أسباب الراحة بالبحرين في دراساتهم، وفي طلعاتهم الترفيهية، ولكن للأطفال كما يقول: "عالم آخر لا ندركه نحن الكبار، بل ندركه ونتجاهله، للأطفال حياتهم، علاقاتهم، ميولاتهم.. هم يستشعرون الغربة أكثر منا".
وذكر بسام إسماعيل وهو مقيم مصري أن غربته تزداد وتتعاظم كلما فكر في مستقبل أبنائه، فهم الآن في مراحل عمرية مختلفة، ومنهم المولود بمصر ومنهم المولود بالبحرين، والمشكلة في تداخل اللهجات على ألسنتهم، فلا هم أتقنوا اللهجة البحرينية ولا هم أجادوا اللهجة المصرية، ما أحدث إرباكا لنا جميعا سواء بمصر أو بالبحرين. "وفي النهاية تركناها على الله" كما يقول. وتحدث أبو خالد يمني يعمل في مكتب عقارات عن واقع تعليم أبناء المغتربين، وخاصة من جنسيات آسيوية مححدة ممن تكون اللغة العربية ليست اللغة الأم، فهؤلاء لا يذهبون بعيدا في التعليم، إذ سرعان ما ينقطعون مبكرا عن الدراسة، ومن هنا تبدأ معهم مشاكلهم، فلا هم عادوا إلى موطنهم الأصلي بحكم عمل الأب، ولا هم اندمجوا في المجتمع البحريني، وأفادوه بخدماتهم.
وما يزيد ويضاعف معاناة الوافدين هو خوفهم على استقرارهم الوظيفي، يقول أبو ياسين وهو مدرس: لي سبع سنوات بالبحرين، كل سنة أعتبرها الأخيرة، خوفا من التسريح والتفنيش"، ويضيف أن هذا الأمر جعل الشعور بالاغتراب مضاعفا، فأنا أعيش بعيدا عن أسرتي بمصر، فلا شعور باستقرار أسري لأني أعيش بعيدا عن أسرتي، ولا شعور باستقراري الوظيفي، خوفا من فقدان عملي". وتابع " أن كلفة المعيشة ارتفعت بالسنوات الأخيرة، ولم يعد أعد قادرا على توفير مبلغ، فالراتب بين اللإيجار والكهرباء والمصاريف اليوميية".
ويتحدث محمد كبير وهو بنغالي عن معاناته مع الغربة، قال إنه "يغسل سيايير"، بعد أن تم طرده من شركة تنظيف كان يعمل بها منذ خمس سنوات، وعن سبب طرده يقول أنه مع مجموعة من البنغاليين والفلبينيين في نفس الشركة لم يتسلموا رواتبهم من ثلاثة أشهر، ومنهم أربعة أشهر، وحين طالبوا برواتبهم لدفع الإيجار والأكل طردوا. وأضاف بلكنة بعربية "أنا ما فيه مخ.. أنا ليش جاي بحرين.. عشان شغل.. عشان أكل.. والحين ما فيه أكل.. ما فيه شغل.. شو أسوي.. أن إنسان.. ما فيه إحساس.. أرباب ما فيه إحساس.. أنو أنا إنسان".
ويضيف شارك قاسم وهو باكستاني يعمل في "السفريات" أن مشكلة اندماج أبنائهم مع الجاليات الأخرى يبقى محدودا، فلا هم منفتحون على الجاليات الأخرى، ولا هم مشاركون في برامج ثقافية ورياضية وترفيهية إلا في إطار الجالية الوحدة، إضافة إلى أن تدريس أبنائهم تمثل مشكلة لدى الجاليات الآسيوية، فهذه الجالية ذات العدد الكبير بالبحرين النسبة العظمى منها تعمل بمجالات دخلها ضعيف كالخدمات والإنشاءات، ولا يقدرون على تعليم أبنائهم بالمدارس الخاصة.
تلك هي حكاية الجاليات.. وكلنا شخصيات الحكاية.. ووجه آخر للحكاية.. حكاية تبدأ ولا تنتهي.. ولا حصانة لأحد من دور في الحكاية.