- الثقافة تبني الشخصية عبر التربية والتعليم والإعلام المتنوع المسؤول
- الثقافة العربية تمر بأزمات العقل والوضع الاجتماعي والاتصال بين الأفراد
- الاختلاف الثقافي ظاهرة محسوسة وتشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها
..
د. فهد حسين
إن الحديث عن الخصوصية الثقافية يأخذنا إلى التأمل في العلاقة بين الثقافة المحلية أو المناطقية، وبين الثقافة الإنسانية، ويجعلنا التأمل في بعض الهويات التي كانت متمسكة بها الشعوب، والأمم، كاللغة والدين والقومية، وكأننا ننظر إلى الخصوصية من منطلق ما تمثله كل مكونات المجتمع، وما يتصف به ويتميز من خلاله في سياقات التعبير لكل تمثلات هذا المجتمع أو ذاك، وما يحمله من معتقدات وموروثات وقيم جمالية وفنية، وسلوكيات ثقافية واجتماعية وحياتية يومية ومعيشة تتمثل في الأكل والمشرب والملبس والمسكن.
وعلى مدار تاريخ البشرية هناك دائماً عناصر تميز هذا الشعب عن غيره من الشعوب في بعض المجالات الحضارية والثقافية والأدبية والموروثات المختلفة.
ومهما حاولت أية جهة للتقليل من هذه الثقافة أو تلك، أو السعي إلى ردم فجوة التمايز فلن تستطيع؛ على اعتبار أن الخصوصية الثقافية باقية وإن دخلت في الثقافات الأخرى، لهذا يتطلب الأمر قراءة متأنية وثاقبة فيم يخص الثقافة عامة والخصوصية الثقافية بشكل خاص في سياق مفهوم الخصوصية الثقافية، وملامحها، وأبعادها في إطار الثقافات الإنسانية الأخرى، فضلاً عن هذه الخصوصية والعولمة.
وهنا يمكن لنا التساؤل: هل الثقافة العربية هي الإطار المرجعي للعقل العربي؟ هل التقوقع في دائرة الخصوصية الثقافية تجعلنا ماذا؟ هل نكون بعيدين عن الثقافات الأخرى؟ هل نحمي بذلك خصوصيتنا الثقافية؟ هل نفتح الباب مشرعاً لتكون خصوصيتنا الثقافية ضمن الثقافات الأخرى؟ هل تتمكن خصوصيتنا الثقافية من الاندماج مع الثقافات الأخرى؟ أين تكمن الخصوصية الثقافية، هل في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية؟ أم في التراث الشعبي والفلكلور؟ أم في الإرث الثقافي والحضوري؟ أم في اللغة والدين؟ أم في الحياة الاجتماعية وأنماطها؟ أم في التنمية البشرية والاقتصادية؟ لم تحافظ المجتمعات الإنسانية على ثقافتها ورمزيتها وأشكالها في ظل التحولات الحاصلة في عالمنا اليوم؟.
وهل هذه الخصوصية الثقافية امتياز للأمة؟ هل هذه الخصوصية أجبرت عليها الأمة أم كان حدوثها بمحض إرادة الأمة نفسها؟ أي هل الخصوصية الثقافية لأي شعب هو اختارها أم أجبر عليها؟ وهل خصوصيتنا الثقافية صالحة لكل زمان ومكان؟.
تبقى الأسئلة قائمة تتولد دون انقطاع، وإن وصلنا إلى إجابات فهي إجابات ليست قطعية وتفرض علينا البحث عن إجابات أخرى تلك التي تجعلنا نطرح المزيد من الأسئلة، إلا أن أية ثقافة ذات خصوصية فلها مجموعة من المقومات، مثل: اللغة، الدين، العادات والتقاليد والأعرف الاجتماعية والسلوكية، والموروث الثقافية والاجتماعي والفلكلوري، بالإضافة إلى مجموعة القيم التي تميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات الأخرى.
ولكن يبقى السؤال حول الثقافة نفسها إن كانت فردية وشخصية أم جماعية، محلية أم كونية، هل هي روح الفرد والذات أم روح الجماعة والمجتمع، أهي ماديات الإنسان أو ما يعني به الفكر والمعنى؟. هكذا كانت وستبقى الأسئلة تثار بين الحين والآخر حول الثقافة ومفهومها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
بيّن سعد البازعي ذلك بالقول: "فمن أقرب الأسئلة وأشدها صعوبة هي ماهية الثقافة، وحين يتأمل الإنسان في تطور المفردة من حيث هي مفهوم، فإنه يجد أمامه تاريخاً من الاستعمال الطويل المتبدل الذي يحيل سؤال الماهية إلى سؤال تاريخي متشابك الجذور والصلات"([1])، وهنا لا بد من النظر إلى الثقافة بوصفها الفكر واللغة والكتابة والوعي والبناء لما لها من مطلب التأملات في كل مفاصل الحياة البشرية المعنوية والمادية.
تأخذ الثقافة بعدين اثنين أساسيين، هما: البعد المعني بالثقافة المهتمة بالمنجز المادي وحضارة المكان بالتراث والثقافة المادية التي تراه العين متوسدة المكان كالقلاع والمتاحف والآثار والمدرجات والكتابات والقبور وغيرها، وهي ثقافة مرئية خارج كيان الإنسان الداخلي.
أما البعد الثاني فهو المنجز المعنوي المتمثل في الأفكار والقيم والمبادئ والسلوك الحضاري، وطبيعة العيش والسكن وتمثل الثقافة واللغة والدين، وهي ثقافة تنمو داخل الإنسان تدريجيًا، وفي الوقت ذاته فالثقافتان ينبغي أن تنسجمان ولا ينفصلان عن بعضهما البعض.
كما ترتبط الثقافة بالمجتمع عبر طريقين، هما طريق الأفـراد الذين يمتهنون العمل اليدوي والعضلي والجسمي، وطريق الأفراد الذيـن يمتهنون العمل الإداري أو الفني أو الإبداعي أو التخصصي.
أما تعريفهـا فقد "استطاع المؤلفون في نهاية الخمسينات من القرن العشرين أن يجمعـوا أكثر من (150) تعريفاً مختلفاً للثقافة قيد الاستعمال في الكتب الأكاديمية"([2])، ومـن هنا "فالثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة، إذ توحي إلينا أن ننشد أحياناً مجتمعين، وأن نرقص مجتمعين، ونضحك مجتمعين، والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها، ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك وخاصة الكفاح المشترك"([3]).
وهذا يعني، أن الثقافة لا شك تسهم في بناء الشخصية ونموها عبر التربية والتعليم والإعلام المتنوع المسؤول، كما تسهم في نمو الوعي نحو التطلع الاقتصادي والسلوك الاجتماعي والتعايش السلمي، وتسهم أيضًا في تنمية الوعي السياسي.
وتأكيداً على ذلك، أشار خلدون النقيب إلى أن للثقافة وظائف حددها وليم دوركايم تتمثل في منح الأفراد الهوية المشتركة، وضمان استمرار الحياة الاجتماعية عبر النقل والإرسال الثقافي من جيل لآخر، حيث شفرة الترميز التي تعطي للأشياء معنى، متأثرة بحركة التاريخ([4]).
كما اتجه وايلد فسكي، إلى تصنيف الجماعات الثقافي السياسية في أربع مجموعات، هي: جماعة النخبة: إذ يؤمن النخبويون بالتنظيم التدريجي، والإحساس بالمسؤولية تجاه من هم دونهم، وجماعة النزعة الفردية: وهم الذين يؤمنون بالمنافسة الحرة، وعلى الحكومة الإبقاء على مساحة للحوكة وحماية الملكية الخاصة، وفي الوقت نفسه ليسوا منغلقين داخل ثقافات سياسية معينة، بل يمكن لهم الانتقال من مجموعة إلى أخرى وفقاً لما يتمتعون به من خبرات وتجارب، وجماعة أصحاب دعوة المساواة: وهؤلاء يؤكدون على أن لكل فرد في المجتمع حاجات عامة، والجماعة القدرية: هم غير سياسيين، ويؤمنون بالحظ ([5]).
وهـذا يوضح أن الثقافة تصاب ببعض التوترات بين ما يرتبط بالجماعة وما يرتبط بالفرد حيث الثقافـة الفرديـة ليست الثقافـة بمعناها الأنثروبولوجي، والثقافـة المشتركة ليست هي التعبير عن المحلية والإقليمية وتاريخ المكان، ولكي لا يحدث التوتر داخلياً أو خارجياً في بعده الثقافي فلابد من احترام الفوارق الثقافية([6]).
لا أحد يختلف أن الثقافة العربية تمر بأزمات كثيرة، أزمات في العقل العربي، والوضع الثقافي والاجتماعي، والاتصال بين أفراد المكان الواحـد، والعلاقة مع الآخر، وهذا يعني "ببساطة أن العقل العربي في بعض نتاجـه أو مجمـل ذلك النتـاج ما يزال يجد صعوبة في نقـد ذاتـه، وتفهـم موقفهـا من الآخر، والصعوبة قد تكـون أبستمولوجية ثقافيـة تحيـل إلى التربية الفكريـة "([7])، فضلاً عن علاقة الثقافة مع الدولة السياسية التي تنظر إليها من زاويتين مختلفتين، زاوية التشجيع والدعم المادي والمعنوي تجاه المشهد الثقافي، ولكن الزاوية الأخرى تتمظهر بين الحين والآخر توجسًا من دور المثقف والثقافة في إبراز بعض القضايا المجتمعية التي لا تريد هذه الدولة أو تلك كشفها أو البوح بها.
وبين فؤاد زكريا أن الأزمة الثقافية بحاجة إلى حوار ثقافي عميق، وتواصل معرفي بين المعنيين بالشأن الثقافي في العالم العربي، والنظر إلي آليات التفكير ودور العقل العربي في ذلك حيث: "في وطننا العربي إحساس بأن الثقافة في أزمة، ومع ذلك فإن كثيراً من المتحاورين في هذا الموضوع لا يتفاهمون، ولا يصلون إلى تحديد واضح لطبيعة الأزمة ومظاهرها ووسائل حلها، لأسباب من أهمها: إنهم لم يتفقوا على معان محددة للكلمات التي يستخدمونها في بحث هذا الموضوع الحيوي"([8]).
وحين نؤمن أن الثقافة تبني وطنًا وشعبًا وحضارة فهذا كله يصب في تنمية الإنسان وتطوره ثقافيًا، ومن خلال هذا البناء يستطيع مضاهـاة الدول الأخرى، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نتأمـل الأنماط الثقافية في عالمنا العربي الذي يتمثل في المعارف والأعراف والمعتقدات والهويات وغيرها من التراكم الحضاري حيث النمط الشائع في الحضارة العربية هو النمط الثقافي الديني بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص، وهذا ما نختلف فيه عن مجمل الأنماط الثقافية التي المتمثلة في بعض الحضارات والثقافات، "فالنمط الثقافي لليونان نمط فلسفي، والنمط الثقافي للرومـان نمط فني وعسكـري، والنمـط الثقافي للصين نمط صوفي، والنمط الثقافي للهنـد نمط ديني"([9]).
وفيما يدور حولنا حول تلك الطرائق المتاحة، والوسائط المتعددة الممكنة، هل تتمكن في توفير الأرضية السليمة لهذا البناء الذي يتطلب الحصول على التعليم المعرفة والخبرة والتجربة، ومحاكاة الأفكار المتجددة، والطاقات المختلفة، وهذا بحاجة ماسة إلى آليات تسهم في كيفية احتضان المواهب والتقدير للجهود، وكما كان يؤكد على ذلك العالم أحمد زويل بأن الغرب ليسوا عباقرة ونحن -يقصد العرب- أغبياء، فقط هم يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن -العرب- نحارب الناجح حتى يفشل.
ولكن مهما حدث فإن الثقافة بشكل عام تقوم على فهم جل أهداف الحضارة الإنسانية، وتسعى مؤمنة إلى العمل على تهذيب طباع البشر، والعمل على مدركات القيم الإنسانية العليا، ومثلها الداعية إلى أهمية الفكر والوعي في المجتمع، على اعتبار أن "الاختلاف الثقافي ظاهرة محسوسة وتشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها، أبرزها اللغة والمعتقدات والتاريخ والتقاليد والمنتجات المعرفية والذوقية من علوم وآداب وفنون، وأنماط السلوك وطرق التغيير ..."([10])، لذلك يتلقى الأفراد المفاهيم الثقافية والثقافة بشكل عام من خلال عمليات التعليم والتعلم.
أي أن الثقافة قيم إنسانية بالدرجة الأولى، وإذا كانت الثقافة مؤسسة رمزية اجتماعية لا تقتصر على الفرد، وإنما تشمل الجماعة الصغيرة والكبيرة، وتسعى دائماً إلى فعل الحراك المجتمعي الذي يحدد إدراك الفرد تجاه العالم من حوله واتساعه، "فالتفكير بواسطة ثقافة ما معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكـل إحداثياتهـا الأساسيـة من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتهـا الموروث الثقافـي، والمحيـط الاجتماعي، والنظـرة إلى المستقبل، بل إلى العالم، وإلى الكون والإنسان([11]).
وعرف العالـم البريطاني الأنثروبولوجي إدوارد تايلور الثقافة بقوله: "هي ذلك الكـل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع"([12]).
وهذا يعني أن الفرد لا يمكنه أن يكون إلا داخل النظام المعرفي للجماعة وثقافتها؛ لأن هناك ارتباطًا بين الثقافة نفسها وبين المجتمع، لذلك "فالثقافة تتصل بروح الشعب وعبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتدعـو إليها.
إن الثقافة جملة من المنجزات الفنيـة والفكرية والأخلاقية التي تكـوّن تراث أمة يعتبر مكتسبًا بصورة نهائية وتؤسس لوحدتها"([13]). فالثقافـة هي المـدى، وقواعد السلـوك العامـة، ووعي الأفـق الذي ينخـرط في تقاليـده وعـي الأفراد ووعي الجماعات ووعي المجتمع، "فالثقافات تنشـأ وتنمـو من عملية المثاقفـة والتفاعـل الواعـي واللاواعـي"([14])، وهذا يدعو إلى التأمل في جل المشكلات الاجتماعية والثقافيـة التي تبدأ ببعض الألفاظ اللغويـة، إذ غالباً ما تظهر الـ(أنا) في الحديث والحوارات وتحتفي الـ(نحن)، وهنـا أليس من الأجدى مراجعة أنفسنا ونحن نتحدث؟ وكيف نوظف المفردات وما ترمي إليه؟
[1] - سعد البازعي، قلق المعرفة – إشكاليات فكرية وثقافية، ص19.
[2] - مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية ـ أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية؛ ص7.
[3] - مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص134.
[4] - خلدون النقيب، مجلة العروبة، نادي العروبة، ص38.
[5] - انظر: أرثر أيزابرجر، النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة، ص115.
[6] - انظر: جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص418-420.
[7] - سعد البازعي، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص43.
[8] - فؤاد زكريا، خطاب إلى العقل العربي، ص16.
[9] - علي شريعتي، مسؤولية المثقف، ص135.
[10] - سعد البازعي، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص13.
[11] - محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي(1)، ص13.
[12] - زكي الميلاد، المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية في الثقافة، ص166.
[13]- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص24-25.
[14]- بهيجة إدلبي، الأدب التفاعلي وحوار الثقافات، ص12.
- الثقافة العربية تمر بأزمات العقل والوضع الاجتماعي والاتصال بين الأفراد
- الاختلاف الثقافي ظاهرة محسوسة وتشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها
..
د. فهد حسين
إن الحديث عن الخصوصية الثقافية يأخذنا إلى التأمل في العلاقة بين الثقافة المحلية أو المناطقية، وبين الثقافة الإنسانية، ويجعلنا التأمل في بعض الهويات التي كانت متمسكة بها الشعوب، والأمم، كاللغة والدين والقومية، وكأننا ننظر إلى الخصوصية من منطلق ما تمثله كل مكونات المجتمع، وما يتصف به ويتميز من خلاله في سياقات التعبير لكل تمثلات هذا المجتمع أو ذاك، وما يحمله من معتقدات وموروثات وقيم جمالية وفنية، وسلوكيات ثقافية واجتماعية وحياتية يومية ومعيشة تتمثل في الأكل والمشرب والملبس والمسكن.
وعلى مدار تاريخ البشرية هناك دائماً عناصر تميز هذا الشعب عن غيره من الشعوب في بعض المجالات الحضارية والثقافية والأدبية والموروثات المختلفة.
ومهما حاولت أية جهة للتقليل من هذه الثقافة أو تلك، أو السعي إلى ردم فجوة التمايز فلن تستطيع؛ على اعتبار أن الخصوصية الثقافية باقية وإن دخلت في الثقافات الأخرى، لهذا يتطلب الأمر قراءة متأنية وثاقبة فيم يخص الثقافة عامة والخصوصية الثقافية بشكل خاص في سياق مفهوم الخصوصية الثقافية، وملامحها، وأبعادها في إطار الثقافات الإنسانية الأخرى، فضلاً عن هذه الخصوصية والعولمة.
وهنا يمكن لنا التساؤل: هل الثقافة العربية هي الإطار المرجعي للعقل العربي؟ هل التقوقع في دائرة الخصوصية الثقافية تجعلنا ماذا؟ هل نكون بعيدين عن الثقافات الأخرى؟ هل نحمي بذلك خصوصيتنا الثقافية؟ هل نفتح الباب مشرعاً لتكون خصوصيتنا الثقافية ضمن الثقافات الأخرى؟ هل تتمكن خصوصيتنا الثقافية من الاندماج مع الثقافات الأخرى؟ أين تكمن الخصوصية الثقافية، هل في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية؟ أم في التراث الشعبي والفلكلور؟ أم في الإرث الثقافي والحضوري؟ أم في اللغة والدين؟ أم في الحياة الاجتماعية وأنماطها؟ أم في التنمية البشرية والاقتصادية؟ لم تحافظ المجتمعات الإنسانية على ثقافتها ورمزيتها وأشكالها في ظل التحولات الحاصلة في عالمنا اليوم؟.
وهل هذه الخصوصية الثقافية امتياز للأمة؟ هل هذه الخصوصية أجبرت عليها الأمة أم كان حدوثها بمحض إرادة الأمة نفسها؟ أي هل الخصوصية الثقافية لأي شعب هو اختارها أم أجبر عليها؟ وهل خصوصيتنا الثقافية صالحة لكل زمان ومكان؟.
تبقى الأسئلة قائمة تتولد دون انقطاع، وإن وصلنا إلى إجابات فهي إجابات ليست قطعية وتفرض علينا البحث عن إجابات أخرى تلك التي تجعلنا نطرح المزيد من الأسئلة، إلا أن أية ثقافة ذات خصوصية فلها مجموعة من المقومات، مثل: اللغة، الدين، العادات والتقاليد والأعرف الاجتماعية والسلوكية، والموروث الثقافية والاجتماعي والفلكلوري، بالإضافة إلى مجموعة القيم التي تميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات الأخرى.
ولكن يبقى السؤال حول الثقافة نفسها إن كانت فردية وشخصية أم جماعية، محلية أم كونية، هل هي روح الفرد والذات أم روح الجماعة والمجتمع، أهي ماديات الإنسان أو ما يعني به الفكر والمعنى؟. هكذا كانت وستبقى الأسئلة تثار بين الحين والآخر حول الثقافة ومفهومها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
بيّن سعد البازعي ذلك بالقول: "فمن أقرب الأسئلة وأشدها صعوبة هي ماهية الثقافة، وحين يتأمل الإنسان في تطور المفردة من حيث هي مفهوم، فإنه يجد أمامه تاريخاً من الاستعمال الطويل المتبدل الذي يحيل سؤال الماهية إلى سؤال تاريخي متشابك الجذور والصلات"([1])، وهنا لا بد من النظر إلى الثقافة بوصفها الفكر واللغة والكتابة والوعي والبناء لما لها من مطلب التأملات في كل مفاصل الحياة البشرية المعنوية والمادية.
تأخذ الثقافة بعدين اثنين أساسيين، هما: البعد المعني بالثقافة المهتمة بالمنجز المادي وحضارة المكان بالتراث والثقافة المادية التي تراه العين متوسدة المكان كالقلاع والمتاحف والآثار والمدرجات والكتابات والقبور وغيرها، وهي ثقافة مرئية خارج كيان الإنسان الداخلي.
أما البعد الثاني فهو المنجز المعنوي المتمثل في الأفكار والقيم والمبادئ والسلوك الحضاري، وطبيعة العيش والسكن وتمثل الثقافة واللغة والدين، وهي ثقافة تنمو داخل الإنسان تدريجيًا، وفي الوقت ذاته فالثقافتان ينبغي أن تنسجمان ولا ينفصلان عن بعضهما البعض.
كما ترتبط الثقافة بالمجتمع عبر طريقين، هما طريق الأفـراد الذين يمتهنون العمل اليدوي والعضلي والجسمي، وطريق الأفراد الذيـن يمتهنون العمل الإداري أو الفني أو الإبداعي أو التخصصي.
أما تعريفهـا فقد "استطاع المؤلفون في نهاية الخمسينات من القرن العشرين أن يجمعـوا أكثر من (150) تعريفاً مختلفاً للثقافة قيد الاستعمال في الكتب الأكاديمية"([2])، ومـن هنا "فالثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة، إذ توحي إلينا أن ننشد أحياناً مجتمعين، وأن نرقص مجتمعين، ونضحك مجتمعين، والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها، ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك وخاصة الكفاح المشترك"([3]).
وهذا يعني، أن الثقافة لا شك تسهم في بناء الشخصية ونموها عبر التربية والتعليم والإعلام المتنوع المسؤول، كما تسهم في نمو الوعي نحو التطلع الاقتصادي والسلوك الاجتماعي والتعايش السلمي، وتسهم أيضًا في تنمية الوعي السياسي.
وتأكيداً على ذلك، أشار خلدون النقيب إلى أن للثقافة وظائف حددها وليم دوركايم تتمثل في منح الأفراد الهوية المشتركة، وضمان استمرار الحياة الاجتماعية عبر النقل والإرسال الثقافي من جيل لآخر، حيث شفرة الترميز التي تعطي للأشياء معنى، متأثرة بحركة التاريخ([4]).
كما اتجه وايلد فسكي، إلى تصنيف الجماعات الثقافي السياسية في أربع مجموعات، هي: جماعة النخبة: إذ يؤمن النخبويون بالتنظيم التدريجي، والإحساس بالمسؤولية تجاه من هم دونهم، وجماعة النزعة الفردية: وهم الذين يؤمنون بالمنافسة الحرة، وعلى الحكومة الإبقاء على مساحة للحوكة وحماية الملكية الخاصة، وفي الوقت نفسه ليسوا منغلقين داخل ثقافات سياسية معينة، بل يمكن لهم الانتقال من مجموعة إلى أخرى وفقاً لما يتمتعون به من خبرات وتجارب، وجماعة أصحاب دعوة المساواة: وهؤلاء يؤكدون على أن لكل فرد في المجتمع حاجات عامة، والجماعة القدرية: هم غير سياسيين، ويؤمنون بالحظ ([5]).
وهـذا يوضح أن الثقافة تصاب ببعض التوترات بين ما يرتبط بالجماعة وما يرتبط بالفرد حيث الثقافـة الفرديـة ليست الثقافـة بمعناها الأنثروبولوجي، والثقافـة المشتركة ليست هي التعبير عن المحلية والإقليمية وتاريخ المكان، ولكي لا يحدث التوتر داخلياً أو خارجياً في بعده الثقافي فلابد من احترام الفوارق الثقافية([6]).
لا أحد يختلف أن الثقافة العربية تمر بأزمات كثيرة، أزمات في العقل العربي، والوضع الثقافي والاجتماعي، والاتصال بين أفراد المكان الواحـد، والعلاقة مع الآخر، وهذا يعني "ببساطة أن العقل العربي في بعض نتاجـه أو مجمـل ذلك النتـاج ما يزال يجد صعوبة في نقـد ذاتـه، وتفهـم موقفهـا من الآخر، والصعوبة قد تكـون أبستمولوجية ثقافيـة تحيـل إلى التربية الفكريـة "([7])، فضلاً عن علاقة الثقافة مع الدولة السياسية التي تنظر إليها من زاويتين مختلفتين، زاوية التشجيع والدعم المادي والمعنوي تجاه المشهد الثقافي، ولكن الزاوية الأخرى تتمظهر بين الحين والآخر توجسًا من دور المثقف والثقافة في إبراز بعض القضايا المجتمعية التي لا تريد هذه الدولة أو تلك كشفها أو البوح بها.
وبين فؤاد زكريا أن الأزمة الثقافية بحاجة إلى حوار ثقافي عميق، وتواصل معرفي بين المعنيين بالشأن الثقافي في العالم العربي، والنظر إلي آليات التفكير ودور العقل العربي في ذلك حيث: "في وطننا العربي إحساس بأن الثقافة في أزمة، ومع ذلك فإن كثيراً من المتحاورين في هذا الموضوع لا يتفاهمون، ولا يصلون إلى تحديد واضح لطبيعة الأزمة ومظاهرها ووسائل حلها، لأسباب من أهمها: إنهم لم يتفقوا على معان محددة للكلمات التي يستخدمونها في بحث هذا الموضوع الحيوي"([8]).
وحين نؤمن أن الثقافة تبني وطنًا وشعبًا وحضارة فهذا كله يصب في تنمية الإنسان وتطوره ثقافيًا، ومن خلال هذا البناء يستطيع مضاهـاة الدول الأخرى، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نتأمـل الأنماط الثقافية في عالمنا العربي الذي يتمثل في المعارف والأعراف والمعتقدات والهويات وغيرها من التراكم الحضاري حيث النمط الشائع في الحضارة العربية هو النمط الثقافي الديني بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص، وهذا ما نختلف فيه عن مجمل الأنماط الثقافية التي المتمثلة في بعض الحضارات والثقافات، "فالنمط الثقافي لليونان نمط فلسفي، والنمط الثقافي للرومـان نمط فني وعسكـري، والنمـط الثقافي للصين نمط صوفي، والنمط الثقافي للهنـد نمط ديني"([9]).
وفيما يدور حولنا حول تلك الطرائق المتاحة، والوسائط المتعددة الممكنة، هل تتمكن في توفير الأرضية السليمة لهذا البناء الذي يتطلب الحصول على التعليم المعرفة والخبرة والتجربة، ومحاكاة الأفكار المتجددة، والطاقات المختلفة، وهذا بحاجة ماسة إلى آليات تسهم في كيفية احتضان المواهب والتقدير للجهود، وكما كان يؤكد على ذلك العالم أحمد زويل بأن الغرب ليسوا عباقرة ونحن -يقصد العرب- أغبياء، فقط هم يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن -العرب- نحارب الناجح حتى يفشل.
ولكن مهما حدث فإن الثقافة بشكل عام تقوم على فهم جل أهداف الحضارة الإنسانية، وتسعى مؤمنة إلى العمل على تهذيب طباع البشر، والعمل على مدركات القيم الإنسانية العليا، ومثلها الداعية إلى أهمية الفكر والوعي في المجتمع، على اعتبار أن "الاختلاف الثقافي ظاهرة محسوسة وتشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها، أبرزها اللغة والمعتقدات والتاريخ والتقاليد والمنتجات المعرفية والذوقية من علوم وآداب وفنون، وأنماط السلوك وطرق التغيير ..."([10])، لذلك يتلقى الأفراد المفاهيم الثقافية والثقافة بشكل عام من خلال عمليات التعليم والتعلم.
أي أن الثقافة قيم إنسانية بالدرجة الأولى، وإذا كانت الثقافة مؤسسة رمزية اجتماعية لا تقتصر على الفرد، وإنما تشمل الجماعة الصغيرة والكبيرة، وتسعى دائماً إلى فعل الحراك المجتمعي الذي يحدد إدراك الفرد تجاه العالم من حوله واتساعه، "فالتفكير بواسطة ثقافة ما معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكـل إحداثياتهـا الأساسيـة من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتهـا الموروث الثقافـي، والمحيـط الاجتماعي، والنظـرة إلى المستقبل، بل إلى العالم، وإلى الكون والإنسان([11]).
وعرف العالـم البريطاني الأنثروبولوجي إدوارد تايلور الثقافة بقوله: "هي ذلك الكـل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع"([12]).
وهذا يعني أن الفرد لا يمكنه أن يكون إلا داخل النظام المعرفي للجماعة وثقافتها؛ لأن هناك ارتباطًا بين الثقافة نفسها وبين المجتمع، لذلك "فالثقافة تتصل بروح الشعب وعبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتدعـو إليها.
إن الثقافة جملة من المنجزات الفنيـة والفكرية والأخلاقية التي تكـوّن تراث أمة يعتبر مكتسبًا بصورة نهائية وتؤسس لوحدتها"([13]). فالثقافـة هي المـدى، وقواعد السلـوك العامـة، ووعي الأفـق الذي ينخـرط في تقاليـده وعـي الأفراد ووعي الجماعات ووعي المجتمع، "فالثقافات تنشـأ وتنمـو من عملية المثاقفـة والتفاعـل الواعـي واللاواعـي"([14])، وهذا يدعو إلى التأمل في جل المشكلات الاجتماعية والثقافيـة التي تبدأ ببعض الألفاظ اللغويـة، إذ غالباً ما تظهر الـ(أنا) في الحديث والحوارات وتحتفي الـ(نحن)، وهنـا أليس من الأجدى مراجعة أنفسنا ونحن نتحدث؟ وكيف نوظف المفردات وما ترمي إليه؟
[1] - سعد البازعي، قلق المعرفة – إشكاليات فكرية وثقافية، ص19.
[2] - مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية ـ أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية؛ ص7.
[3] - مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص134.
[4] - خلدون النقيب، مجلة العروبة، نادي العروبة، ص38.
[5] - انظر: أرثر أيزابرجر، النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة، ص115.
[6] - انظر: جامعة كل المعارف، ما الثقافة؟، ص418-420.
[7] - سعد البازعي، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص43.
[8] - فؤاد زكريا، خطاب إلى العقل العربي، ص16.
[9] - علي شريعتي، مسؤولية المثقف، ص135.
[10] - سعد البازعي، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، ص13.
[11] - محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي(1)، ص13.
[12] - زكي الميلاد، المسألة الثقافية من أجل بناء نظرية في الثقافة، ص166.
[13]- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص24-25.
[14]- بهيجة إدلبي، الأدب التفاعلي وحوار الثقافات، ص12.