تحتفل وزارة الخارجية بمرور خمسين عامًا على العمل الدبلوماسي، منذ تأسست دائرة الخارجية بمرسوم من صاحب السمو الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه في الثاني عشر من يناير عام 1969، ثم صارت وزارة الخارجية مع نيل المملكة استقلالها عام 1971، وشهدت وزارة الخارجية تطورات عدة خاصة مع تولي جلالة الملك المفدى عام 1999، والذي قاد الدبلوماسية البحرينية لتحقيق المزيد من النجاحات على المستويين الإقليمي والدولي.
لقد شهدت الدبلوماسية البحرينية على مدار خمسين عامًا العديد من الأحداث وواجهت العديد من التحديات كان أبرزها تحديات الاستقلال والإدعاء الإيراني بتبعية المملكة لها وتصدير إيران لأفكارها الطائفية المقيتة، والأزمة الحدودية مع قطر وحرب الخليج الأولى والثانية ومؤامرة عام 2011 التي أديرت من الخارج لخلق الفوضى في المملكة، وعلى المستوى العربي الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى المستوى الدولي كانت أحداث سبتمبر وانتشار الإرهاب والتطرف وغيرها من أحداث جسام، واستطاعت المملكة من خلال دبلوماسية نشطة مواجهة هذه التحديات والتغلب عليها بل وخلق فرص لها، وفرضت احترام العالم للدبلوماسية البحرينية وإداراتها للقضايا والتحديات المختلفة وهذه مناسبة للإشادة بجهود سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة الذي قاد الدبلوماسية البحرينية لأكثر من ثلاثة عقود، وكان وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة خير خلف لخير سلف حيث واصلت الدبلوماسية البحرينية تحقيق نجاحاتها في مختلف الميادين.
إن العامل الأهم والمؤثر في تحديد مكانة الدولة في محيطها الخارجي، هو شخصية القائد صانع القرار الذي يعرف قدر الإنسان والأرض والتاريخ، ورؤيته للحاضر والمستقبل، ويعي طبيعة المتغيرات الداخلية والخارجية، ويحسن استغلال الموارد المتاحة، ويتولى توجيه إدارة السياسة الخارجية لبلاده في الاتجاه الصحيح. ومنذ تولى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، مقاليد الحكم، دخلت مملكة البحرين عهدا جديدا، وكانت الدبلوماسية البحرينية أكبر المستفيدين من خطوات جلالته الإصلاحية التي جعلت العالم ينظر بتقدير واعتزاز إلى المشروع الإصلاحي الكبير لجلالة الملك وما تضمنه من رؤى متقدمة ومبادرات خلاقة على المستويين الداخلي والخارجي، وكان المشروع الإصلاحي ركيزة التحركات الخارجية، وأساس نجاحها وفاعليتها.
وفي عهد جلالة الملك الزاهر دخل البعد الاقتصادي والتنموي بقوة في صلب علاقات البحرين الخارجية، واحتل حيزا كبيرا من الاهتمامات الدبلوماسية، كما نجحت مملكة البحرين، بقيادة جلالة الملك المفدى في تجاوز أحداث عام 2011 التي أريد بها تشويه صورة البحرين أمام العالم تمهيدا لإغراقها في الفوضى، لكن جلالته استطاع من خلال قيادته للدبلوماسية تعزيز سمعة البحرين الخارجية، عبر خطوات وإجراءات غير مسبوقة، من بينها إنشاء لجنة مستقلة لتقصي الحقائق، وكان حدثاً فريداً في المنطقة والعالم، وإنشاء عدة مؤسسات مستقلة للمتابعة والمساءلة، فضلا عن اطلاق حوار توافق وطني أفضي إلى تعديلات دستورية، وإجراء الانتخابات التكميلية وغيرها من الخطوات المهمة، والتي أكدت أن الأمن والاستقرار دعامة رئيسية للنمو والتقدم والإصلاح، فالدول لا تنشد الاستقرار لمصلحة الاقتصاد فحسب، وإنما تنشده لحماية سيادتها وكيانها، والمملكة لن تفرط في ذلك أبداً.
وقد التزمت الدبلوماسية البحرينية وعلى مدى خمسين عاما، بأهدافها الاستراتيجية القائمة على تأكيد سيادة واستقلال ووحدة أراضي مملكة البحرين على المستوى الاقليمي والعربي والدولي، وصيانة وحماية مصالح البحرين الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في الخارج والدفاع عنها، وتنمية وتعزيز وتقوية الروابط والعلاقات بين مملكة البحرين وكافة الدول والهيئات العربية والدولية، وتمثيل البحرين في المحافل العربية والدولية، ودعم القضايا العادلة للأمة العربية والاسلامية وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس الشريف.
وحرصت الدبلوماسية البحرينية على التأكيد على الالتزام بالثوابت العربية والإسلامية، والالتزام بمبادئ الشرعية الدولية بما يعزز الأمن والسلم العالميين، والتأكيد على مبادئ الحوار والتعاون بين الدول والشعوب ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
وتنقسم اهتمامات مملكة البحرين على الصعيد الخارجي، إلى أربعة دوائر هي الدائرة الخليجية، فهي عضو مؤسس لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي تأسس في 26 مايو 1981، والعربية، فالمملكة عضو فاعل بجامعة الدول العربية، والإسلامية، ثم الدولية، وذلك من خلال شبكة من العلاقات الدولية القوية ومنها العلاقات القوية مع الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين وغيرها من القوى الغربية. وعضويتها النشطة في التجمعات الدولية الأخرى مثل: حركة عدم الانحياز، ومجموعة الـ77 ومبادرة «إسطنبول» للتعاون التي أطلقها «الناتو» عام 2004، ومنظمة التعاون الآسيوي وغيرها.
وتعول مملكة البحرين على المشاركة وتفعيل مختلف أطر التعاون البناء، ومن بينها الانخراط في تحالفات عسكرية مع الشركاء، لمجابهة تحديات الإرهاب وفوضى حروب الجيل الجديد، مثل: التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، والتحالف الدولي ضد داعش، فضلا عن دعم إنشاء التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، من أجل تحقيق أمن دائم وسلام مستقر، وتنمية مستدامة لدول المنطقة.
وتكتسب الدائرة الخليجية أولوية متقدمة في تحركات الدبلوماسية البحرينية، كونها تمثل الامتداد الطبيعي والحيوي للمملكة، وركيزة قوتها واستقرارها، وكانت البحرين من أولى الدول التي دعت إلى إنشاء مجلس التعاون الخليجي، كما قدمت كل أنواع الدعم والمساندة الممكنة له، وكانت البحرين من أوائل الدول التي بادرت باتخاذ قرارات لتنفيذ الاتفاقية الاقتصادية الموحدة بين دول المجلس، ومنها معاملة أبناء المجلس معاملة البحريني في النشاطات الاقتصادية، لتكون البحرين بذلك سباقة في دعم الأنشطة الرامية للتكامل الاقتصادي الذي تسعى إليه دول مجلس التعاون.
أما على صعيد محيطها العربي، تولي المملكة اهتماما خاصا بدعم مسيرة العمل العربي المشترك، ونصرة القضايا العربية والإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية العرب المركزية لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية، وتحقيق التسوية السلمية العادلة والشاملة في الشرق الأوسط بقيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، وعدم التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.
وتنشط مملكة البحرين على مستوى جامعة الدول العربية في مختلف مجالات التعاون العربي. ففي مارس 2017، تم التوقيع على محضر النظام الأساسي للمحكمة العربية لحقوق الإنسان، والتي جاءت كمبادرة كريمة من جلالة عاهل البلاد المفدى، ما يجسد حرص المملكة على تعزيز احترام الحقوق والحريات، وتوفير كافة الضمانات لحمايتها.
وتنطلق مملكة البحرين في تحركاتها على المستوى الدولي من مجموعة من المبادئ الأساسية والأهداف التي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة، ومن أهمها: التأكيد على أن السلام العالمي والإقليمي، يشكل هدفا أساسيا واستراتيجيا ينبغي العمل على تحقيقه، وضرورة تسوية كافة المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وحظر استخدام القوة للنيل من سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة.
وترتبط المملكة بالأمم المتحدة بعلاقات قوية على سبيل المثال قرار صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء، رقم (19) لسنة 2018 بإنشاء لجنة التنسيق والمتابعة بين مملكة البحرين ووكالات منظمة الأمم المتحدة، كإحدى ثمار إطار الشراكة الاستراتيجية للسنوات من 2018 - 2022، بهدف دعم تنفيذ خطة عمل وأولويات الحكومة، ومراعاة احتياجات ورضا المواطنين، وفقا لأعلى مستويات ومعايير الجودة العالمية. وقرار مجلس الوزراء باعتماد دمج أهداف التنمية المستدامة في الخطة الحكومية للسنوات 2020- 2022، والتقرير الطوعي الذي قدمته البحرين للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الأممي رفيع المستوى، وعضوية المملكة في العديد من المنظمات الدولية ومنها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. كما أن البحرين عضو متميز في منظمه التجارة العالمية منذ يناير 1995.
وتحرص مملكة البحرين على استضافة وحضور الاجتماعات الخليجية والعربية والإقليمية والدولية على كافة المستويات، ولم تكتف بمجرد المشاركة والتواجد في هذه المحافل بل تشارك بثقل كبير وتطرح رؤيتها لإيجاد حلول لقضايا المنطقة العالم والتحديات التي تواجهه، وبفضل هذه الاستراتيجية، تتمتع مملكة البحرين بعلاقات دبلوماسية واقتصادية طيبة مع معظم دول العالم، ولعبت دورا كبيرا في تعزيز العلاقات الإقليمية والدولية باستضافتها للعديد من القمم والمؤتمرات الدولية التي تهدف لتعزيز الشراكات الدولية لثقة العالم في المملكة، كما استضافت العديد من الفعاليات والمؤتمرات لتقوية الشراكة بين دول مجلس التعاون الخليجي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال القارة الأفريقية في إطار التزامها كدولة عضو في مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية.
وهناك بعد مهم في علاقات المملكة الدولية، تبلور مع دعوات ومبادرات جلالة الملك بشأن أهمية التعايش السلمي وتلاقي الحضارات حول العالم، من خلال حوار جامع، يفتح آفاق رحبة للسلام والتعاون الإنساني، خاصة أن البحرين واحة للتعايش والتسامح لجميع الديانات والفئات.
وحتى تصل وزارة الخارجية للريادة في الدبلوماسية كان عليها تكوين كفاءات متميزة للعمل الدبلوماسي، ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الدبلوماسي وفقا للمرسوم الملكي الذي صدر في الأول من سبتمبر عام 2016م، المعهد يتبع وزير الخارجية مباشرة، برئاسة سعادة الدكتورة الشيخة منيرة بنت خليفة بن حمد آل خليفة، ويعمل على تطوير وتنمية الكوادر الدبلوماسية بأعلى القدرات والمهارات اللازمة في العمل الدبلوماسي. ويضطلع المعهد الدبلوماسي، بدور حيوي ومهم، لتدريب وتأهيل الدبلوماسيين، وتزويدهم بأعلى القدرات والامكانيات والمهارات، وفق منهج علمي ومهني رصين. ويقوم المعهد ببحث سبل التعاون المشترك مع عديد من وزارات الخارجية العربية ومعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث، وغيرها من المؤسسات والمنظمات الدولية.
إزاء هذه الجهود كان للعالم أن يعترف للدبلوماسية البحرينية بالكفاءة والتميز، ومن أبرز الدلائل على ذلك انتخاب البحرين كعضو في العديد من المنظمات الدولية ذات العضوية المحدودة، كمجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان رغم صغر مساحتها، كما تم انتخاب مملكة البحرين رئيسًا للجمعية العامة للأمم المتحدة وتم تعيين الشيخة هيا بنت راشد آل خليفة رئيسا للجمعية في يونيو 2006 كأول امرأة من الشرق الأوسط وثالث امرأة في التاريخ تتولى هذا المنصب.
لقد أثبتت مملكة البحرين رغم محدودية مساحتها ومواردها الطبيعية، أنها دولة كبيرة مؤثرة ذات مصداقية وتقدير دولي، بفضل حكمة قيادة جلالة الملك المفدى، وثبات مواقفها، واعتدال نهجها. ولها الحق كل الحق - وهي تحتفل باليوبيل الذهبي للدبلوماسية - أن تفخر باستدامة منجزاتها الإصلاحية، ومكتسباتها التنموية، وريادتها الحضارية والإنسانية، في ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة عاهل البلاد المفدى. القائد الإصلاحي، الذي يمتلك كل مقومات الزعامة الحقيقية. وها هي الدبلوماسية البحرينية تحقق نجاحًا تلو الآخر، حتى صارت مدرسة يتعلم منها الآخرون فن إدارة السياسة الخارجية.