د.رفيقة بن رجب*
اليوم سوف نلقي بعض الضوء على مؤلف شغل النقاد لأهميته، وكان لي شرف الإطلاع عليه وقراءة بعض أبوابه وهو كتاب "سوسيولوجيا الغزل العذري" للدكتور الطاهر لبيب.
اشتمل مؤلفه على أربعة أبواب، متشعبة إلى فصول عدة بمسميات مختلفة، وعوالم متباينة. ومن ضمن المحاور التي شدتني من الباب الثالث، هو بالتحديد الفصل الخامس، وعنوانه "العفة شعر أم حقيقة" وقد عالج فيها جملة من القضايا أكد من خلالها على التباعد بين الصورة الإبداعية والواقع الذي نعيشه. وعرض إلى شعر الإباحيين وكان مثاله على ذلك الشاعر الأموي الإباحي "عمر بن أبي ربيعة" باعتباره الشاعر المناقض تماماً للشعر العذري.
وقد تحدث عن بيئة عمر الاجتماعية، والاقتصادية، فضلاً عن حياته الخاصة، وأشار لتساؤلات جمهوره عن مدى إباحيته، وتضارب الروايات في هذا المجال، ومدى مصداقية القصص التي يرويها في قصائده مع فتيات مكة وسواهن.
ولمؤلفنا في هذا المجال رؤيا أحسبها منطقية وهي إن العرب يفضلون الشعر الذي يتحدى الواقع، ويتجاوزه، وعلاقة الرجل بالمرأة آنذاك ليست مجرد انعكاس لإباحية جنسية حقيقية؛ بقدر ما هي علاقة مركبة تعني الوصول السهل لأوساط النساء، وهي أيضاً مؤشر على مكانة اجتماعية محددة يطمح إليها عمر. وقد اختار النموذج الأكثر شيوعاً وهو قصيدته في "نعم" التي شغلت عمر فعلاً في العديد من القصائد الرائعة.
المرأة علامة متغيرة
إذن المرأة علامة متغيرة، فهي عند العذريين مجرد وسيط عملي، أو حامل رمزي للرؤيا الاجتماعية، والغريب أنها حبيبة واحدة في جميع النصوص، تعبر عن الشقاء الذي يعشش في ثنايا الواقع والتآسي على ما فات.
ورغم اختلاف التأويلات حول الغزل العذري، ورغم لذة الانكسار حيناً، وقوة الدلالة حيناً آخر، فإن شعراء الغزل العذري قد يتجاوزون تلك الأزمات والإحباطات، بإعادة تأسيس الغزل طبقاً لصدى الفكر والوجدان، ويتحركون بين نظرية الإتباع والإبداع، وهضم الموروث لكي يتماهى وإطار التجديد والابتكار لخلق التناغم عبر التجليات التي تؤكد على دلالة الحضور الجمالي، بشكل يستهوي الذائقة الفنية؛ لتحقيق ذاك الانسجام بين الشاعر وقصيدته حيناً، وبين الشاعر وجمهوره حيناً آخر، متجاوزاً القيود التي قد تعيقه؛ ليعبر عن دواخله تجاه محبوبته بقوة الإرادة التي تهمش فقدان الحس الإجمالي والروحي، وتؤكد على استيعاب فضاءات الوجود العشائري المفروض عليها.
من خلال قراءتي لديوان عمر بن أبي ربيعة بتمعن: إن المرأة لديه أصبحت ذاك الفضاء الذي تنقل إليه صيرورة الاندماج حيث نسج عمر حول كل امرأة ذكرها قصة محبوكة تجعلنا نقف حائرين بين الواقع والخيال. نعم هذا هو عمر الثري الوسيم نفسه هو المطلوب لا الطالب.
وحين جنح عمر للتغزل بالمرأة، ووصف جمالها، كنت أتوقع أن يكون له كلامه الشعري الفردي الخاص به، بحيث يشكل الفاعلية الأساسية لتجربته الذاتية، وتنتظم في نسيجه الشعري سواء على مستوى المعجم أم على مستوى الأنساق التركيبية، أم الصورة الشعرية، ولكني وجدت إن مزاجه اللاهي وما يشيع في بيئته من لهو ومتعة يستبدان بشعره ولا أعني إن شعره يفتقد المضمون الفكري لأن الفكر والشعر لا ينفصلان وإنما قصدت إن طبيعة رصد معجمه الشعري قد تشكل من محورالإنشاء التراثي والذوق العربي فهو أوصف الشعراء لربات الحجال .. هنا يبرز وبعمق أثر البيئة التي عاشها عمر، حيث استجابت لغته من ناحية الأداء الفني لزمانها، والاتجاه يكمن في اختيار الألفاظ المشاكلة لحياة أصحابها وبيئاتهم بما فيها من روح الانتساب إلى الإنشاء التراثي الذي يتولد من تراسم التصور الجمالي للمرأة إضافة إلى العرف والعادة.
ولعل رصد العلاقات لديه هو الذي يؤسس جوهر النص، ويرتبط بالتعبير عن ذاته، وطبيعته، وتأتي ألفاظه محملة بدلالات تنبثق من التجربة الذاتية، وتعبر عن السمر الأنثوي والمناوشات الجنسية التي لا نراها إطلاقاً لدى العذريين.
يحوم ولا يرد
ولم تخضع دلالات المعجم الشعري العمري للجدل الفني، وإنما هي منظومة من المواقف التي تتكرر مع جميع النساء دون تخصيص فهو يحاكي صورة المرأة المثال كما هي في الذاكرة العربية، وكما هي في وجدان الرجل العربي، ولكن الغريب بأنه وكما شاع عنه يحوم ولا يرد، فهو بارع في ابتكار المواقف الغزلية من واقع الظرف الذي شاع في الحجاز. إذن الحب العمري هو الحب المتنقل المتحول هو شعر استباحة الغزل.
وهذا يتباين ويختلف عن الشعر العذري الذي كان له منحى آخر أشرنا إليه بتلخيص من خلال رؤيا الدكتور الطاهر لبيب الذي ركز في مؤلفه على استحضار شامل للغزل العربي، تحقق من خلاله ذاك التمازج والتداخل الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتوليد ملحمة شعارها المحافظة على التوازنات الفنية؛ لتحقيق منظومة الفكر الأيديولوجي المتمازج مع الإرث العربي بثوب جديد، فقد فتحت الأبواب لاستقطاب المنهجيات المتباينة لتشكيل الهوية الغزلية وفقا لزمنية هذا الفن ليتماهى مع معطيات الممارسة التي تغلغلت في بنية الخطاب المعيشي، وتبنت عوالمه وأنساقه.
إذن المرأة لدى العذريين كما أشرنا جاءت لتعكس الشقاء والظلم في مجتمع يغص بالصراعات، فأصبح خيار التمرد على الصكوك المألوفة هو الأجدى. وقد لفت نظري عبارة أشار إليها الدكتور وهي أن الحب الإباحي هو حب استلاب، أي أن الشاعر الذي يتعب في الركض وراء الحبيبة لا يعود مردود تعبه له وإنما للآخرين وهذا هو قمة اليأس. بينما الغزل العمري يبحث فقط عن تأكيد ذاته .والشاعران كلاهما كان حضورهما نتيجة لتشابك الأنساق القرائية، في زمن تداخلت فيه كل الأطر والأنماط.
وسوف تظل ثقافة المتلقي هي المتغيرة من خلال النسق المفتوح؛ لاستيعاب كل الإبداعات الواردة؛ لتوظيف الدلالات عبر جسر التداعي للإلمام بالمد الحضاري على مر العصور ولن نجد مندوحة من تعدد وجهات النظر لأي مفهوم؛ لكي نصل في نهاية المطاف إلى مسلمات فنية تتفق وثقافة المتلقي على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
* أستاذة النقد والبلاغة بالجامعة الأهلية