قاسم حداد

لابد أن يكون هناك درجة من الوعي للتحولات الفنية في تجربة الشاعر .. وبقدر تفاوت هذه الدرجة بين الشاعر والآخر تفعل الموهبة المبدعة فعلها.

يكون وعي الشاعر للمسألة في الوقت الذي يقف أمام تجربته بعد كل قصيدة لتأملها .. لاكتشافها بالعقل البارد، للتعامل معها من شرفة النقد التي لا بد أن تتوافر في روح الشاعر وتكوينه الأدبي. هذه الوقفة تحدث خارج لحظة الكتابة بالطبع، وعندما يعتادها الشاعر ويجيد التعامل معها بحساسية يستطيع أن يكون مستعداً أكثر للاستفادة منها في تجربته اللاحقة.

في لحظة الكتابة عندما يحضر الشاعر في القصيدة يتجرد من تلك النظرة ذات العقل البارد وشرفة النقد، هو الآن في لحظة التأجج حيث درجة الانفعال غامرة إلى الدرجة التي تصير فيها الموهبة هي القائدة المسيطرة، ويمكن لمدخرات التجارب السابقة أن تنصهر في شكل إبداع جديد. وبقدر نجاح الشاعر على استيعاب تجاربه السابقة تأتي تجاربه الجديدة باحتمال أكبر من التطور والتحول الفني، ومغايرة السابق بتجاوز ملحوظ.

لكن الأكيد أن الشاعر وقت كتابة القصيدة لا يكون مقتصداً بوعي مختبري لعملية التحول الفني من الوجهة الإبداعية، فعل الإبداع يغلب عليه الانفعال والعاطفة، مع قدر من جماليات الصنعة. ولا يحضر الوعي إلا في صورة طيف شفاف.

ليست هناك محطات تنتظر الشاعر .. على الشاعر أن يخلق محطاته الخاصة ويبتكر وسائله، تماماً مع بعضها، خاصة في مجال الإبداع، يمكن أن يحدث التشابه أحياناً في التجارب الضعيفة الفاشلة، لكن التجارب الناجحة التي تحقق إبداعاً لا يمكن أن تتشابه إلا بالدرجة التي تتشابه بصمات الأشخاص .. الإبداع هو فعل فردي إلى أقصى حد.

الشعر في أيامنا مازال مرشحاً لأن يصير تاريخاً للواقع العربي. اهتمام الناس بالأدب يتأثر بين وقت وآخر بملابسات اجتماعية وحضارية وثقافية، هذا لا ينبغي أن يقلل من أهمية الشعر .. الشاعر يكتب قصيدته من بداية التاريخ نفسه بالدرجة الأولى، وبعد ذلك يأتي العالم. لا يهتم الشاعر بالقارئ إلا بعد أن يشبع في روحه حاجة غامضة في البوح والتحدي.

الشعر هو هواء الزمان. الشعر هو بوصلة الوقت. وكل شعر لا يصوغ وقته ولا يبتكر مناخه، يتخلف عن حركة التاريخ، والشعر لا يهتم كثيراً في الذين يرغبون في الاسترخاء. الذي يسترخي سيتركه الزمن. ومن يرغب في الاسترخاء عليه أن يبتعد عن الشعر. فالشعر ضد الاسترخاء بشتى أشكاله.