د. منال عمارة

يؤدي الأدب رسالة سامية وهادفة، ولطالما كان العمل الأدبي صناعة تزخر بالحس الإنساني، وله قيمته الذوقية التي تظهر جوهره وتجعله يحمل رسالة تتصل بحياة الأفراد والجماعات على حد سواء، يأتي ذلك حينما يخدم العمل الأدبي قضايا الأمة أو يصور مصيرها المستقبلي أو يفسح المجال للتحسين الأخلاقي والعودة إلى الأصالة.

ويشترك الفن التشكيلي مع الفن الأدبي في أنهما يحملان نفس الرسالة السامية التي لها أثر نفسي عميق ولها مغزى حياتي، حيث يكمن الإبداع والتميز، والأصالة، فيصبح الفن التشكيلي الوسيلة للتعبير عن الأفكار المشاعر. ولا شك أننا عندما نرى لوحة فنية مرسومة تحرك مشاعرنا المختلجة، فالفن له دور فعال في بناء الحضارة، وهو دافع مستمر في التطور والنمو، وهو عامل أساسي في يقظة المجتمع من الركود والانحطاط، وفي قيادة العالم فكرياً نحو توجه فني منطلق بأنامل مبدعة لها بصماتها الخاصة لإيصال رسالة هدفها سامٍ.

وهذا ما سنعرضه في عجالة سريعة مجيبين عن تساؤل عميق، مفاده هل يستطيع الفن التشكيلي أن يترجم ما نقرؤه من فن أدبي متمثل في قصة أو ملحمة شعرية؟ ويأتينا الجواب متمثلاً في تجربة فريدة بين قامتين من قامات الأدب والفن المعروفين في الأدب العالمي عامة، والأدب الإيطالي خاصة. بين أيدينا عمل من هذه الفئة الرصينة يعد من أهم وأبرز الأعمال التي عرفت في الأدب الإيطالي، ويراه الأدباء والنقاد أفضل الأعمال الأدبية على المستوى العالمي.

نظرة خيالية

الكوميديا الإلهية لدانتي أليجيرى من أجمل وأمتع الأعمال الشعرية الملحمية، حيث جابت سمعة هذا المؤلف الآفاق وترجم إلى العديد من اللغات العالمية، تحتوي هذه الملحمة الشعرية على نظرة خيالية وتستعين بعناصر مجازية حول الآخرة، كما أنها تعكس فلسفة القرون الوسطى بما فيها من نظرات عميقة في الخلق ومصير الإنسان بعد الموت.

تنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أجزاء هي (الجحيم والمطهر والجنة)، ويعد قسم الجحيم الأشهر في هذه الملحمة ويتألف من أربع وثلاثين "أنشودة"، بينما يتألف كل من القسمين الآخرين من ثلاث وثلاثين "أنشودة"، وعليه تكون الكوميديا الإلهية مكونة من مائة مقطع كاملة، وتحمل حوالي أربعة عشر ألفاً ومائتين وثلاثة وثلاثين بيتاً شعرياً يحكي فيها "دانتي" رحلته الخيالية في الآخرة بحسب أحداث الملحمة التي استغرقت أسبوعاً، "يومان في الجحيم وأربعة أيام في المطهر، ويوم في الجنة".

يتصور دانتي موقع الجحيم بعيداً عن الإله الذي يشع نوراً ويتخيل نفسه تائهاً عند مفترق الطرق وسط غابة مظلمة تغص بالذنوب، ويصف في قصيدته هذه عالماً أبدعه في مخيلته، فيه مكان للخير، وكذلك للشر الذي يراه من وجهة نظره نتيجة للعجرفة المفرطة في سلوك أول ملاك تمرد على حكمة الرب. ويرى دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته، إذ يقول في المطهر وفي القصيدة السادسة عشرة "إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم"، لأن الإنسان يبحث دوماً عن مصدر الشر فيما حوله منزهاً نفسه وملقياً المسؤولية على السماء. وتكمن المأساة، في رأي دانتي، في العقول النائمة، فالمدانون في الجحيم هم أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم. وهو عندما ينظر إلى أعماق الإنسان يرى أن قلبه يأكله الحسد والبخل والطمع.

بينما المطهر عند دانتي عبارة عن جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، فهو يصبو في قرارة نفسه إلى رحلة ارتقاء روحي نحو الكمال في العالم الآخر بهدف التقرب إلى الخير الأعلى والسكينة الدائمة. فالحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة وإن اختلفت الديانات، وكان دانتي يؤمن بوجود إله واحد أبدي يحرك ولا يتحرك، وبأن هذه الحقيقة موجودة في الكتب السماوية ويمكن لأي إنسان أن يكتشفها إن أعمل عقله، وكان في الوقت ذاته يدافع عن طبقة حاكمة نبيلة تصل إلى السلطة بالعلم والفضيلة، ومن ثم تستحق هذه الطبقة أن تدخل إلى المملكة الثالثة من ملحمته الشعرية وهي الجنة.

البعد المنظوري

وبعد دانتي بأعوام ليست بالقليلة يبزغ نجم فنان مبدع هو أنطونيو مانيتي ليحدث نقلة نوعية في أساليب التصوير الفني تسمى بالبعد المنظوري، وقد بدأ هذا الاتجاه مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ويمكن تجاوز تسمية هذه النقلة باسم البعد الثالث في التمثيل الفني حيث قام بتحويل نصوص الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي إلى أبعاد جغرافية متخيلة، هذا الفنان لم يحظَ بشهرة واسعة كشهرة مايكل أنجلو، أو ليوناردوا دافنشي، على الرغم من إسهاماته العديدة وابتكاراته في فن الرسم حيث أضاف بعداً جغرافياً لأغلب لوحاته هذا البعد مستمداً أغلبه من فنون أدبية كتابية كملحمة دانتي الشعرية، وسأختصر في عرض تصور مانيتي للجزء الأشهر من ملحمة دانتي المكتوبة، فنعرض تصوره لجغرافية جهنم أو "الجحيم" كما أطلق عليه دانتي.

يقسم مانيتي جغرافية جهنم إلى دوائر تسع، وحدد موقع جهنم أسفل مدينة أورشليم (القدس) في مثلث يمتد من القشرة الخارجية للأرض حتى مركزها، ويقابل القدس في الجهة الأخرى جبل المطهر، ثم انتقل مانيتي إلى تفصيل درجات جهنم وفقاً لنص الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي. فتبدأ الدوائر الخارجية بأخف درجات العذاب وتنتهي بأقسى الدرجات في أعماق الجحيم حيث يعيش الشيطان وهذه الدرجات كالتالي:

1- الليمبو، ويعذب فيها أولئك الذين لم يفعلوا الخطايا لكنهم لم يؤمنوا بوجود الله.

2- دائرة تعذيب أصحاب السلوك الشهواني.

3- دائرة تعذيب أصحاب الشره والنهم والطمع الذين لا يشبعون من شيء.

4- دائرة عذاب أهل التطرف والمسرفين والبخلاء.

5- دائرة نهر القاذورات، ويعذب فيها أهل التسرّع والتهوّر ونقيضهم من الكسالى والمتبلدين.

6- دائرة عذاب المهرطقين والمجادلين في الدين.

7- دائرة العذاب السابعة لأولئك الذين ارتكبوا الطغيان والعنف والقتل ضد ذويهم وأقاربهم وجيرانهم وبني الإنسانية ومن قتلوا أنفسهم .

8- دائرة العذاب الثامنة، وتنقسم إلى عدة أركان يقبع فيها اللصوص والمنافقون والمرتشون والسحرة والعرافون والفاسدون والمحتالون، ومن يبذرون الشقاق والكراهية بين الناس، والمزورون وفي نهايتها قاع وبئر العذاب.

9- الدائرة التاسعة أشد صنوف العذاب لمرتكبي كل أفعال الخيانة، أما مركز الجحيم فهو مركز عذاب الشيطان لأنه خان الله وقد عبر مانيتي عن طبقات العذاب هذه في شكل منظوري مجسم ينتهى بأعمق أماكن العذاب (بئر الخيانة).

نهاية تبقي كلمة في حق هذين المبدعين نقولها: "إن من أحب الأدب أتقن الفن".

* أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية المساعد