محرر فضاءات أدبية
بعد الحرب العالمية الثانية بدا وكأن الرواية الفرنسية باتجاهاتها المتعددة – الواقعية والوجودية – من حيث بناؤها الفني ولغتها قد دخلت مرحلة الانهيار. وأن نفساً أدبياً جديداً أصبح حتمياً وذلك للخروج من (مأزق السرد القصصي) كما يسميه كلود اولييه.
وانطلاقاً من كتابات فلوبير وديستويفسكي وكافكا وجويس وفولكنر وخاصة بيكيت انطلق كتاب ما أسماه النقاد (الرواية الجديدة) وفي اتجاهات متعددة مغامراتهم الأدبية عاملين على تقويض البناء التقليدي وتجريب كتابة جديدة.
جاء ذلك في الملف الذي أعده الكاتب يعقوب المحرقي عن (الرواية الجديدة في فرنسا) المنشور في العدد الثامن من مجلة كلمات 1987.
تجربة وليست نظرية
يقول المحرقي: لقد أجمع النقاد والكتاب أن هذه (الرواية الجديدة) هي تجربة في الكتابة وليست نظرية أو مدرسة أدبية مع أنهم اجتمعوا في عدة لقاءات أدبية أشهرها لقاء عام 1971.
إن هذه النزعة التجديدية الرافضة للرواية التقليدية قد عبر عنها سارتر منذ عام 1949 وأسماها (ضد الرواية) وأهم خصائصها تحطيم الشخصية ذات النمط الروائي التقليدي الذي أعقب بلزاك والذي تميز بالسرد الزمني المتتابع للأحداث. كذلك رفض كتاب الرواية الجديدة الوعظية والالتزام (كما عرفه سارتر). وقد قادتهم هذه التجربة وبصور مختلفة إلى التخلص من السرد الروائي والوصف المكاني وخلق الشخصيات النمطية أي إلى نوع من الوحدة في الكتابة والوعي والكون أو كما يقول روب جرييه (انه بعد الحديث عن العالم، يجب الحديث بالعالم).
وقد وجه كتاب الرواية الجديدة بعاصفة من النقد خاصة من النقاد الجامعيين أو الأكاديميين بينما وقف إلى جانبهم النقد الجديد الذي أدرك أهمية اكتشافاتهم. كما قام بعض الكتاب وانطلاقاً من روايتهم وقصصهم بكتابة الدراسات النظرية دفاعا عن الرواية الجديدة. فقد كتب جان ريكاردو دراسته (من أجل نظرية للرواية الجديدة) – 1971 وكتبت ناتالي ساروت (عصر الشك) وروب جرييه (من أجل رواية جديدة) – 1963. وفي بحثهم لتجذير وتعميق تجربتهم في الكتابة تعددت توجهاتهم. فقد اتجه روب جرييه مثلاً إلى العالم الخارجي بكل محسوساته فهو يحاول كما يقول – أن يرى العالم به بعين مجردة بعيدة عن أي تسلط من أي قوى أخرى. مما دعا النقاد إلى تسمية اتجاهه بمدرسة النظر أو الاتجاه الموضوعي. أما هو فقد رفض هذه التسميات فهو - كما يقول – يكتب ضد ذاته .. أي ضد الجمهور.
مواجهة بين الواقعي والخيالي
إن الكتابة لدى روب جرييه مواجهة بين الواقعي والخيالي، الحاضر والماضي والمستقبل، الحقيقي والزائف، المادة وصورتها. وفي رواياته كما في أفلامه تتعدد الأزمة لغوياً وواقعياً وتكثر المرايا والأسطح العاكسة، أما فعل الكتابة فهو كما يقول "لتحطيم الوحوش الليلية التي تهدد بغزو حياة الصحراء لدي، فوصفي الدقيق لها هو تدميرها" وقد تناول العديد من دارسيه مسألة التناقض بين واقعية العناصر المكونة لرواياته وبين نفيه للواقعية.
وفي رأي المحرقي، أن أهم ما كتب حول هذا الموضوع هو تحليل جيرارد جينيت لهذه الظاهرة في كتابه القيم "وجوه" حيث يقول (إن حق التناقض الذي طالب به بودلير ليس فقط من حق الكاتب بل هو ضرورة لوضعه ككاتب: فإذا كان العمل الأدبي وكما قال سارتر بحاجة إلى (عالم مستحيل) لمضمونه و(تناقض مستتر) لشكله فإن صياغة نظرية لهذا العمل لن تكون سوى مستحيلة أو متناقضة).
ان اهتمام كتاب الرواية الجديدة وعلى رأسهم روب جرييه بالشيء أو الموضوع الخارجي بمعناه المادي المحسوس في الرواية جاء كتعبير عن سخطهم على الرواية الواقعية والوجودية والنفسية التي كانت الأشياء تتواجد في ثناياها ككتل تتحدد أهميتها بعلاقاتها النفسية والتاريخية بالانسان أو بالوسط الذي توجد فيه وهي بذلك ليست مستقلة وليست قائمة بذاتها. لقد حاول روب جرييه ولفترة طويلة خلق هذا الاهتمام بالشيء ككيان مستقل يؤثر في العلاقات الإنسانية وليس العكس. ولهذا فقد كتب بعض النقاد عن شخصيتين للراوي (وهو هنا روب جرييه). الأولى ذات علاقة بالشيء والثانية بالإنسان أو كما يقول جيرارد جينيت عنه "انه يتلاعب بوضع المادة في تناقض مع الذات وفي الانتقال من الذات إلى الموضوع وهذا تململ نموذجي لأدب محاصر بعالم لا يستطيع رفضه أو تقبله".
أما كتاب الرواية الجديدة فقد نظروا إلى علاقة الكتابة بالموضوع بشكل مغاير (فالكتابة الروائية الجديدة تمس الشيء لأنها ترفض المعنى. ومن غموضها وفوضويتها سيولد معنى جديد وبإمكانها التساؤل عن وجوب بقائه معنى للكتابة أو إذا كان سيستدعي وعن طريق هذه الكتابة دلالات وقيم مستقبلية لمجتمع أو لانسان متجدد).
عمق في المعالجة
إن مضامين الرواية الجديدة ورغم بساطتها الظاهرية إلا أنها تمتاز بعمق في المعالجة. وتعقيد في البيئة الفنية. فالنص بذاته ليس بمادة جاهزة مسبقاً ومعدة للقراءة. إنه مادة تتشكل لحظة قراءتها. فهناك توحد بين فعل القراءة والكتابة. وقد أكد النقاد عن تعدد قراءات النص الواحد.
أما عناصر العمل الأدبي فإنها لدى روب جرييه مثلاً تتجه نحو بنائية مركبة أو كما يقول فيليب سولر (كل شيء يجري وكأن مضامين كتبه تتكون من عناصر خام، من حقيقة واقعية منسقة وهي تتناغم في استمرارية ناتجة عن تواصلها ببعض ويبدو وكأن بعض العناصر يستدعي أحدها الآخر لضرورة بنائية.
أما منح جائزة نوبل للأدب لعام 1985 لأحد رواد الرواية الجديدة فهو بمثابة اعتراف بمكانتها الإبداعية ضمن أشكال الثقافة الإنسانية، وذلك بعد ما يزيد على ربع قرن من إصرار كتابها الجريء على اقتحام المغامرة الأدبية.