د. محمد زيدان*

يعقوب الشاروني، لا يعد مؤسساً للكتابة للطفل فقط، بل أصبح الآن منظراً من المنظرين لطرح الفكر الإنساني الراقي من خلال ما يقدمه لعالم الطفولة من رؤى وتصورات إنسانية واجتماعية تفتح أمام العقل آفاقا واسعة للتفكير القائم على المنطق أولا، والإحساس العام بالإنسانية، ثم الإحساس الخاص بحلقة الوصل التي تربط بين: - الإنسان ونفسه - الإنسان والآخر - الإنسان والعالم.

إن تقديم ملامح الشخصية الإنسانية من خلال عالم الحكايات أكثر قدرة على تقديمها من خلال الوعظ المباشر، أو حلقات الدرس، أو حتى التربية النظامية، وإذا تضافرت هذه المستويات مع ما تقدمه الحكايات إلى هذه المرحلة العمرية، فإن ذلك ينتج تأثيراً ظاهراً على السلوك، وعلى قدرات التفكير الإنساني لدى الطفل، وحتى لدى الذين يتفهمون قراءة هذه الأعمال من الكبار، فهي ليست حكايات لعالم الطفولة فقط، بل حكايات للمحيط الإنساني، وقد اخترت لقراءة حكايات الملكة العظيمة حتشبسوت فكرة المنظور الإنساني، لأننا أمام شخصية تتمتع بقدرات فائقة في كثير من مراحل حياتها، بل قدرتها الظاهرة على الفهم والإدراك، والوعي بما تقوم به، وهذا ما يجعلني أقسم هذا المنظور في حياة ملكة الملوك حتشبسوت إلى مراحل ثلاثة: الأولى: مرحلة ما قبل بلوغ العرش. الثانية: مرحلة بلوغ العرش. الثالثة: الإصلاحات التي قامت بها الملكة.

إن النموذج الذي يقدمه يعقوب الشاروني نموذج إنساني مزدوج الدلالات، هذا على مستوى الفكرة الاجتماعية، وإنما هو رسالة مكونة من مستويات متعددة تصلح لذاكرة لا تعتمد فقط على التلقي -كما في الحالة التقليدية- وإنما تعتمد على نوع من التفاعل المتعدد: - التفاعل الفكري - التفاعل السلوكي - التفاعل الاجتماعي - التفاعل الذاتي.

هذه المستويات بدورها لا يمكن الإحاطة بها بشكل أصم داخل الحكاية، وإنما تعتمد في قراءتها على الرسالة/ النص، باعتبارها دالاً من دوال إدراك الحقيقة الجوهرية التي تقوم عليها المجتمعات المتحضرة، وهي أن الإنسان لا يمكن أن تقاس قدراته بالنوع الذي يمثله، سواء كان ذكراً أم أنثى، وسواء كان صغيراً أم كبيراً، إنما المعول الأساسي في إدراك القيمة الإنسانية هو الجوهر الذي نتعامل معه، سواء في صورة الشخصية، أو كان في صورة الفكرة، أو كان في صورة الفعل الحركي الذي يمثل السلوك البشري.

المستويات الجمالية في الحكاية

الفكرة الجمالية في أي نص للأطفال فكرة مركزية، وإدراكها ضرورة من ضرورات الكتابة، على أنها في أحيان كثيرة تكون هدفا وحيدا من أهداف النص، لأن طبيعة الكتابة للطفل تحتاج إلى وعي خاص لقدرات الشخصية على أكثر من وجه: الأول: قدرات الشخصية التي تمثل الفكرة في النص. الثاني: قدرات الشخصية التي يستهدفها النص.

وبالتالي، فإن الكاتب يغوص في عمق شخصيتين متوازيتين، عينه على الأولى في كل ما يمكن أن تؤديه في النص، والسياق الذي يحيط بها، وعينه الأخرى على الثانية بصورة أكثر دقة، لأنه في هذه الحالة يؤدي دور الفكرة الجمالية.

ورغم أن الجمال صورة لا يمكن تحديد ملامحها بشكل دقيق، وتختلف من مذهب إلى مذهب، ومن حالة إلى حالة، بل وتختلف من شخص لآخر، إلا أن الأساسيات التي تعتمد عليها الذاكرة ضرورة نصية، ولنبدأ أولاً بالجمال في الفكرة، حيث يوجه الكاتب وعي المستهدف إلى طريقة من طرق التفكير غير المعتادة، بل يجعل من هذه الطريقة صورة من صور التفكير المنطقي لدى الشخصية، فنرى مثلا كلمات حتشبسوت وهي تنحاز إلى البسطاء من الناس، وتدافع عنهم، وتجعل هذا الانحياز أسلوبها في التقدم الإنساني، أولا على مستوى القيمة الإنسانية، مستوى الجوهر في علاقة الإنسان بالمجتمع، علاقة الإنسان بنفسه، وبالآخرين، إذ تقول: "على الحاكم أن يساعد أبناء السماء في التخفيف عن الناس، بل سيكون هذا أهم واجب أقوم به".

ويستطرد الراوي: ومع أن زواج حتشبسوت وتحتمس الثاني قد تم قبل شهور من رحيل تحتمس الأول إلى عالم الأبدية، فإن الملكة حتشبسوت لم تتنازل عن طموحاتها، لذلك قررت أن يشاركها الملك في رحلة لمتابعة ما تم إنجازه من مشروعات.

قالت حتشبسوت في ثقة لزوجها: "عندما ترى رضا الناس، وتلمس ما يغمرهم من تفاؤل، ستشاركني الفرحة بما تقدم للشعب من خدمات. لكن زوجها تحتمس الثاني كان يفكر بطريقة أخرى. تأمل الملك مئات العمال وهم يشتغلون بنشاط في ترميم معبد كوم امبو، الآن يبعد مسيرة يوم بالسفن إلى جنوب طيبة، ثم قال في أسف لزوجته الملكة حتشبسوت الواقفة بجواره على سطح السفينة الملكية: لماذا لا نجعل من هؤلاء العمال جنودا في جيشي، أسيطر بهم على شعوب جديدة، كما كان يفعل والدك". سر ملكة الملوك – ص 10-11.

لقد لازم هذا التفكير الملكة منذ كانت صغيرة، فكان أبواها يريان فيها طبيعة مختلفة، وتفكيراً مختلفاً، وأسلوباً في التعامل يختلف عن الأساليب السائدة، وهنا يكمن جمال الفكرة الإنسانية التي يركز عليها يعقوب الشاروني، حيث يقسمها بين المواقف إلى عدد من أساليب التعامل: 1- مواجهة الرأي بالرأي 2- تعميق الفكرة بما يلائم العمر الزمني 3- الإقناع في سبيل الوصول إلى الوعي بالفكرة 4- الانحياز إلى الناس 5- التفكير الشعبي 6- التأني في الرد، والتفكير قبل الفعل.

جمالية التفكير المنطقي

هذه المستويات يمكن أن تكون ما أسميه "بجمالية التفكير المنطقي" في الحكايات، وبالأخص عندما نتعامل مع ذاكرة إنسانية مازالت في مرحلة التكوين، حيث تتحول الأفكار لدى هذه النوعية إلى صراع نفسي في المقام الأول، مقارنة بالأفكار المماثلة، ومن خلال مبدأ تداول الأفكار يمكن المقارنة بين الفكرة ونقيضها، وكأننا أمام نوع من التفكير الذي يحاول المواءمة بين الشخصية وبين الموقف، بين الموقف وبين الأثر الذي يمكن أن ينتج عنه، وبين الأثر الناتج، ورد الفعل من الآخر، على النحو التالي: في حالة مواجهة الرأي، يمكن أن تكون المواجهة باحتمالات متعددة، مثل: الصمت، العنف، الفرار، الصد، وهكذا. 2- وفي حالة تعميق الفكرة بما يلائم العمر الزمني، يمكن أن تكون الفكرة المواجهة لها، هي التركيز على الموضوع، أو الثمن، أو المواقف، أو أشياء أخرى. 3- وفي حالة الإقناع، يمكن أن تكون الفكرة المقابلة هي: اللامبالاة، الإقناع بالقوة، التجاهل. 4- وفي حالة الانحياز للناس يمكن أن تكون الفكرة المقابلة: المصالح الشخصية، الأهواء، المال، السلطان .. وغير ذلك. 5- وفي حالة التفكير الشعبي يمكن وضع بدائل مثل: التفكير في الذات، مداهنة الرأي الآخر، الانحياز للرأي السائد أو الأقوى. 6- وفي حالة التأني في الرد يمكن مقابلة ذلك بفعل آخر مثل: التسرع، الإعراض، الخوف، التجاهل.

وهكذا تقدم الحكاية الفكرة بأسلوب بنائي يجعل من صورة إدراكها كلاً لا يتجزأ، ففي حالة من حالات المواجهة التي قامت بها الملكة، يقول الكاتب: "ومع ذلك كان هناك بعض قادة الجيش يهمسون لأصدقائهم قائلين: - الغزو والحروب الخارجية هي الطريق الوحيد إلى المجد وارتفاع الشأن.

كما كان هناك كهنة بعض المعابد الكبرى التي اعتادت أن تستأثر وحدها بمعظم غنائم الحرب، أثاروا المخاوف قائلين: "سيصبح نفوذ مصر إذا توقفت عن الفتوحات، والاستيلاء على مزيد من البلاد الأجنبية، لكن لم يجرؤ واحد من هؤلاء الكهنة والقادة على إظهار رأيه علانية في انتظار لحظة مناسبة يكشفون فيها عن خططهم، يقودهم سرا الكاهن (إم رع) نائب الكاهن الأعظم". سر ملكة الملوك، ص 16

حتشبسوت تمثل الفكرة البنيوية

إن شخصية حتشبسوت هنا تمثل الفكرة البنيوية خير تمثيل، باعتبارها (أي الشخصية) مجرد علامة نصية، أو رمز من رموز إدراك الحكاية، التي تتعدد مستويات الإدراك فيها، بين القيمي الاجتماعي/ والسياسي العسكري، والفكري والسلوكي، وغير ذلك كما تقدم، والكاتب أراد بذلك بناء الشخصية -التأثير في المتلقي- كنوع من الدخول إلى عالم ملكة الملوك، بنوع من جاذبية الأفكار التي تترابط فيما بينها لتعطي صورة واحدة عن حياة الملكة، في صغرها، وفي مرحلتها المتوسطة، وفي كبرها، وقد بدا ذلك جلياً في التفكير الذي تمارسه الملكة، وفي السلوك المرتبط بهذا التفكير، من خلال بناء نفسي واحد، فالمرأة الملكة التي تنحاز إلى شعبها، وتسعى للحصول على رضاه، لابد من النظر ملياً في طريقة تفكيرها، وفي الأسلوب الذي يحكم ذاكرتها الشعبية، حيث تخلت عن ذاكرة الملكة، لتقدم الرخاء والرقي في صورة المشروعات والحرف، وأعمال الزراعة وفلاحة الأرض، في المقابل نرى جماعة المنتفعين يقدمون النموذج المقابل لفكرة الملكة، وهم يسعون إلى فريد من ضم البلاد، لكسب المزيد من الغنائم، والأسلوب، ولكن الحرب هي الحرب، وهذا يجعلنا ننتقل عن الملكة من جماليات التفكير إلى جماليات السلوك: - الملكة تواجه بإصرار وذكاء الرأي الذي يدعو للحرب - الملكة تمثل نموذجاً للشعب في التفكير السليم - الملكة جزء لا يتجزأ من أفعال القيمة التي تحكم الشعب المصري - الملكة بين الفكرة والسلوك تمثل الإنسانة الخيرة.

وعلى رغم أن الرأي المقابل يقدم صورة مصر القوية التي تطال يدها بلاداً أخرى، إلا أن ذلك لم يكن يوماً من طبيعة الشعب المصري، ولم يكن جزءاً من تفكير المصريين، ولنقدم نموذجاً لصورة شخصية الملكة وطريقة تفكيرها وسلوكها: شخصية الملكة = تفكيرها. شخصية الملكة = طموحها. شخصية الملكة = سلوكها. شخصية الملكة = الخير. شخصية الملكة = التقدم. شخصية الملكة = عمارة مصر.

* كاتب مصري