الشِباك
قصة قصيرة – جعفر الديري
لابد أن رؤيته أصبحت مزعجة، شديدة الوطأة على النفس، وإلا لما تحاشاه الناس، وتجنبوا لقاءه.
لكنه ليس مستاء كما يظن الحمقى .. أبدا .. لقد سعى لأن يضع بينه وبينهم حاجزاً شديدة الصلابة، وقد نجح في مسعاه، فصار الجميع يخشون نظراته الحادة ولسانه السليط.
وإنها للذة عظيمة، يحرص على تذوقها كل يوم، حين يفتح شباك نافذته، مراقباً الناس، ساخراً منهم، مطلقاً تعليقات كالحمم، لا يسلم منها صغير أو كبير، رجلا أو امرأة، مندفعاً في الهمز واللمز، مشيراً بيديه، محركاً رأسه ..
- أنظري لهذا الولد ألا يشبه الكرة؟!
وتضحك زوجه، ثم تكشر، ناقمة أنها لم ترزق بالولد حتى الآن.
ويعود فينفث من سيجارته الرخيصة، ويزيد من حدة تطلعه للناس. وتمر فتاة جميلة تمسك بيد شقيقها الصغير ..
- اللعنة عليكِ وعلى أمك وأبيكِ.
ويشاهد طفلاً يعرج ..
- أليس بن فلان؟
وتشاركه زوجه الضحك ..
- وأمه كالبطة أيضاً يا زوجي العزيز.
ثم يشاهد تلميذين مقبلين بثيابهما النظيفة دائما، حاملين كتبهما، فيشعر بأوردته تكاد تنفجر غلاً وحسداً.
هما دون غيرهما من الأطفال، يرفعان ضغطه. إنهما أشطر تلاميذ الحي، يرسلهما أبوهما لمدرس عربي، يقضيان معه ساعات فوق دراستهما النظامية. ينفق عليهما ما يغطي تكاليف أسرة كاملة، وغداً سيتخرجان من جامعة مرموقة، وينالان شهادة كبيرة تخولهما منصب أبيهما بل أرفع من ذلك.
أبوهما مصرفي كبير فاحش الثراء، يتعمد ازدراءه كلما التقى به. راتبه أضعاف ما يناله بشق النفس. يقيم في فيلا فخمة في آخر الشارع، سعيدا بالمال والأولاد، بينما يعيش وزوجه في بيت ضيق، يكاد يخلو من الأثاث، تضطر زوجته للعمل على مكنة الخياطة، وفوق ذلك لا عقب لهما.
وتمر من أمامه أشباح طفولته البائسة.. عصا أبيه تنهال على ظهره لأقل هفوة، فشله في الدراسة، تعرفه على شلة السوء، إدمانه الخمر، ثم السيجار، ثم المخدرات، فقدانه وظيفته، حكاية زوجه الأولى التي سخرت منه وهربت مع آخر.
ويرمق السماء، ويصيح بصوت منكر ..
- لماذا تفعل بنا ذلك؟ لماذا؟
ويمتلأ رأسه دماً، وتدور به الدنيا، ويوشك أن يقع، فيسارع للجلوس، وفمه لا يتوقف عن اللعن والسب وقذف الناس بأبشع النعوت.
قصة قصيرة – جعفر الديري
لابد أن رؤيته أصبحت مزعجة، شديدة الوطأة على النفس، وإلا لما تحاشاه الناس، وتجنبوا لقاءه.
لكنه ليس مستاء كما يظن الحمقى .. أبدا .. لقد سعى لأن يضع بينه وبينهم حاجزاً شديدة الصلابة، وقد نجح في مسعاه، فصار الجميع يخشون نظراته الحادة ولسانه السليط.
وإنها للذة عظيمة، يحرص على تذوقها كل يوم، حين يفتح شباك نافذته، مراقباً الناس، ساخراً منهم، مطلقاً تعليقات كالحمم، لا يسلم منها صغير أو كبير، رجلا أو امرأة، مندفعاً في الهمز واللمز، مشيراً بيديه، محركاً رأسه ..
- أنظري لهذا الولد ألا يشبه الكرة؟!
وتضحك زوجه، ثم تكشر، ناقمة أنها لم ترزق بالولد حتى الآن.
ويعود فينفث من سيجارته الرخيصة، ويزيد من حدة تطلعه للناس. وتمر فتاة جميلة تمسك بيد شقيقها الصغير ..
- اللعنة عليكِ وعلى أمك وأبيكِ.
ويشاهد طفلاً يعرج ..
- أليس بن فلان؟
وتشاركه زوجه الضحك ..
- وأمه كالبطة أيضاً يا زوجي العزيز.
ثم يشاهد تلميذين مقبلين بثيابهما النظيفة دائما، حاملين كتبهما، فيشعر بأوردته تكاد تنفجر غلاً وحسداً.
هما دون غيرهما من الأطفال، يرفعان ضغطه. إنهما أشطر تلاميذ الحي، يرسلهما أبوهما لمدرس عربي، يقضيان معه ساعات فوق دراستهما النظامية. ينفق عليهما ما يغطي تكاليف أسرة كاملة، وغداً سيتخرجان من جامعة مرموقة، وينالان شهادة كبيرة تخولهما منصب أبيهما بل أرفع من ذلك.
أبوهما مصرفي كبير فاحش الثراء، يتعمد ازدراءه كلما التقى به. راتبه أضعاف ما يناله بشق النفس. يقيم في فيلا فخمة في آخر الشارع، سعيدا بالمال والأولاد، بينما يعيش وزوجه في بيت ضيق، يكاد يخلو من الأثاث، تضطر زوجته للعمل على مكنة الخياطة، وفوق ذلك لا عقب لهما.
وتمر من أمامه أشباح طفولته البائسة.. عصا أبيه تنهال على ظهره لأقل هفوة، فشله في الدراسة، تعرفه على شلة السوء، إدمانه الخمر، ثم السيجار، ثم المخدرات، فقدانه وظيفته، حكاية زوجه الأولى التي سخرت منه وهربت مع آخر.
ويرمق السماء، ويصيح بصوت منكر ..
- لماذا تفعل بنا ذلك؟ لماذا؟
ويمتلأ رأسه دماً، وتدور به الدنيا، ويوشك أن يقع، فيسارع للجلوس، وفمه لا يتوقف عن اللعن والسب وقذف الناس بأبشع النعوت.