عبد الله زهير
عزلة الكاتب .. لا عزلة النص
لا يحتاج فن الشعر إلى أن يخلق له أعداء وهميين، من الأجناس النصية المتنوعة. إذ لا مفاضلة هنا إلا في الجودة الفنية التي تحملها بنية أي نص لوحده، مهما يكن جنس هذا النص. ولا حدود تحكم خرائط الكتابة الأدبية؛ حيث يفترض أن تكون التخوم ممحوة بين الأجناس جميعها. فقد تجد عناصر سردية روائية أو مسرحية داخلة في بنية نص شعري، كما يفعل الشاعر الراحل محمود درويش في هذا النص:
"لا شيء يعجبني
يقول مسافر في الباص
لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال
أريد أن أبكي
يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطة
وابك وحدك ما استطعتَ"
وهذا أبسط مبدأ في مسألة التطورات النصية للشعر وسواها من الآداب والفنون في مختلف أنحاء العالم. ولذلك فإن نظرة يسيرة على المشهد تكفي لمعرفة ما إذا كانت الحالة النصية على ما يرام. إذ ثمة وسائل للتطفل على الشعر وعلى الأدب كثيرة، غير أن أشدها مضاضة هو استخدامه أداة في خدمة أي شيء آخر خارج الحالة التناصية الإبداعية. وأعداء الشعر هم أعداء الرواية، وهم أيضا أعداء الأدب بشكل عام، بوعي أو بدون وعي. وكل استرزاق بالأدب، في غالب الأحيان، نقيض لما يعنيه هذا الأدب. وقد تكون إحدى استراتيجيات الاسترزاق مخاطبة غرائز مكبوتة عند الجمهور المتلقي، من أجل حصد عدد أكبر من القراء. والفارق بين استرزاق صريح ومباشر واسترزاق خفي وموارب فارق في الدرجة، وليس في النوع. والقارئ ذكي يقظ يعرف النصوص التي تلمس جوهر كينونته وتحاور واقعه وتضيف إليه وتستكشفه وتعريه وتستسئله وتحرره. ولا تعارض بين أن يكون النص منفتحاً مفتوحاً قادراً على أن يصل إلى شريحة كبيرة من القارئين وبين أن يتسم بالرصانة الفنية والبناء المتماسك. فهل لنا أن نجمع بين هذين الخطين المتوازيين، بعيداً عن الاستسهال الساذج، وفي الوقت نفسه بعيدا عن الانغلاق النصي المفتعل؟ وإذ لا يخفى علينا أن "عزلة الكاتب" لا تعني "عزلة النص". فالكاتب قد لا يجد مناصا من العزلة فضاءً حراً يستطيع من خلاله الإبداع، محتفظاً بمسافة تجعله قادراً على الرؤية أكثر، ولكن النص المنجز بعد ذلك يجب ألا يكون معزولاً عن قارئيه بشكل أو بآخر. وها هنا تكمن قدرة الكاتب على التقاط التقاطعات بين الذات والآخر، فيما يمكن قياس قدرة خلق واقع غائب جديد داخل هذا الواقع القديم الحاضر والماثل أمامنا.
{{ article.visit_count }}
عزلة الكاتب .. لا عزلة النص
لا يحتاج فن الشعر إلى أن يخلق له أعداء وهميين، من الأجناس النصية المتنوعة. إذ لا مفاضلة هنا إلا في الجودة الفنية التي تحملها بنية أي نص لوحده، مهما يكن جنس هذا النص. ولا حدود تحكم خرائط الكتابة الأدبية؛ حيث يفترض أن تكون التخوم ممحوة بين الأجناس جميعها. فقد تجد عناصر سردية روائية أو مسرحية داخلة في بنية نص شعري، كما يفعل الشاعر الراحل محمود درويش في هذا النص:
"لا شيء يعجبني
يقول مسافر في الباص
لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال
أريد أن أبكي
يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطة
وابك وحدك ما استطعتَ"
وهذا أبسط مبدأ في مسألة التطورات النصية للشعر وسواها من الآداب والفنون في مختلف أنحاء العالم. ولذلك فإن نظرة يسيرة على المشهد تكفي لمعرفة ما إذا كانت الحالة النصية على ما يرام. إذ ثمة وسائل للتطفل على الشعر وعلى الأدب كثيرة، غير أن أشدها مضاضة هو استخدامه أداة في خدمة أي شيء آخر خارج الحالة التناصية الإبداعية. وأعداء الشعر هم أعداء الرواية، وهم أيضا أعداء الأدب بشكل عام، بوعي أو بدون وعي. وكل استرزاق بالأدب، في غالب الأحيان، نقيض لما يعنيه هذا الأدب. وقد تكون إحدى استراتيجيات الاسترزاق مخاطبة غرائز مكبوتة عند الجمهور المتلقي، من أجل حصد عدد أكبر من القراء. والفارق بين استرزاق صريح ومباشر واسترزاق خفي وموارب فارق في الدرجة، وليس في النوع. والقارئ ذكي يقظ يعرف النصوص التي تلمس جوهر كينونته وتحاور واقعه وتضيف إليه وتستكشفه وتعريه وتستسئله وتحرره. ولا تعارض بين أن يكون النص منفتحاً مفتوحاً قادراً على أن يصل إلى شريحة كبيرة من القارئين وبين أن يتسم بالرصانة الفنية والبناء المتماسك. فهل لنا أن نجمع بين هذين الخطين المتوازيين، بعيداً عن الاستسهال الساذج، وفي الوقت نفسه بعيدا عن الانغلاق النصي المفتعل؟ وإذ لا يخفى علينا أن "عزلة الكاتب" لا تعني "عزلة النص". فالكاتب قد لا يجد مناصا من العزلة فضاءً حراً يستطيع من خلاله الإبداع، محتفظاً بمسافة تجعله قادراً على الرؤية أكثر، ولكن النص المنجز بعد ذلك يجب ألا يكون معزولاً عن قارئيه بشكل أو بآخر. وها هنا تكمن قدرة الكاتب على التقاط التقاطعات بين الذات والآخر، فيما يمكن قياس قدرة خلق واقع غائب جديد داخل هذا الواقع القديم الحاضر والماثل أمامنا.