الجمجمة

قصة قصيرة - فاطمة النهام

في ليلة عاصفة اتجه الدكتور "جيمس روبرت" أستاذ علم الفيزياء النووية إلى المقبرة ليلاً وهو يغطي وجهه بلثام.

كان القلق يعتريه وهو يتلفت يمنة ويسرة. أحاسيس عديدة متضاربة شعر بها في هذه اللحظة، تختلط بالخوف والقلق والتوتر.

المكان يبدو مخيفاً ودامساً، الأمطار تضربه بقوة كالسياط، وصوت البرق يعلو وكأنه مئات الأسود التي تزأر من السماء، شعر بها وكأنها تود أن تهاجمه وتفترسه بلا رحمة.

حفر أحد القبور وقلبه يخفق بعنف، جاهد أن ينهي مهمته بسلام، فيما قدماه مثقلتان جداً. تباً لهذا الطين الذي يمسك بهمها بإصرار. ماذا لو استيقظت أرواح الموتى المتعبة الآن لتحيط به من كل مكان؟!

إنهم غاضبون حتماً. أليس هو الكائن الغريب المتطفل الذي جاء من عالم الأحياء ليخترق خصوصيتهم بلا خجل؟ حتماً غاضبون منه فهو الكائن غير المرحب به بينهم.

ازدادت الأمطار غزارة. شعر وكأنها لكمات ساخطة وكلمات لاذعة، تلومه على فعلته الشنيعة. تصبب منه العرق ممتزجاً بماء المطر، وهو منهمك في الحفر.

بعد ساعة من عمله المضني انتزع الجمجمة من قاع القبر. هو لا يعرف إن كانت لرجل أو امرأة. لكن ذلك لا يهم. المهم أنه عثر عليها أخيراً.

فجأة انزلقت قدمه فجأة ليجد نفسه يسقط على وجهه. أمسك بالجمجمة بقوة. لقد استهلك وقتاً طويلاً في حفر ذلك القبر كي يحصل عليها. نهض من مكانه ببطء والأمطار لا تزال تصفعه بقسوة والظلام يحيط به من كل مكان.

سحقاً... أين هو المصباح اليدوي؟ أخذ يتحسس الأرض الرطبة بحثاً عنه. ماذا لو أمسكت به إحدى أيادي الموتى البائسة لتسحبه إلى داخل القبر. آه... لقد وجد المصباح أخيراً.

جاهد في الخروج من المقبرة إلى أن نجح في ذلك. حمل معه تلك الجمجمة وقد أحاطها بلثام آخر.

توجه إلى منزله، وبدل ملابسه المبللة بالماء والطين. جلس بعد أن وضع الجمجمة على الطاولة، ثم أشعل الشموع.

ماذا سيفعل الآن؟ هل سينجح فعلاً في أن يسمع صوت حبيبة قلبه مجدداً. كان يشعر بالخزي من نفسه لكنه كان يؤمن بأن الحب يستحق أن يفعل من أجله المرء أي شيء.

أخذ يقرأ التعويذات بتوتر ليحضر روح زوجته الحبيبة "كاترينا" التي فقدها منذ زمن في حادث سيارة. لكم يفتقدها ويشتاق إليها.

لازمته للحظات مشاعر الذنب. كيف لصاحب منصب علمي وأكاديمي كبير، أن يؤمن بمثل هذه الخرافات؟!.

أزاح تلك الأفكار من رأسه، وبمحاولات مستميته استمر في قراءة التعويذات على أمل أن تنطق الجمجمة. هو لا يريد شيئاً في هذه اللحظة سوى أن يسمع صوتها، يريد أن يقول لها إنه يحبها ويعشقها حتى النخاع.

لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، لقد باءت محاولاته بالفشل. امتلأت أعماقه بمشاعر الحزن والحنق، ووضع رأسه بين كفيه وهو يستعيد مشهد حادث السيارة.

لقد انتزعها الموت من بين يديه بلا رحمه. وهو يجاهد الآن كي يسمع صوتها وحسب. حياته لم تعد جميلة كالسابق. لقد حول موتها حياته إلى حطام. بل إلى عالم ملئ بالظلمات.

أخذ بالبكاء بحرقة، ودموعه الحارة تسيل على وجنتيه. تماماً كما يتدفق المطر بالخارج، شعر بها تحرق صدره وتمزق نياط قلبه.

امتزج نحيبه بصوت المطر الذي كان يطرق النافذة بقوة، مشاعر شتى لازمته في هذه اللحظة تختلط بالوحدة واليأس والإحباط.

رفع رأسه ليرى تلك الجمجمة قابعة على الطاولة. شعر وكأنها ترمقه ببرود دون مبالاة. امتلأت أعماقه بالغيظ. دفعها بيده لتسقط على الأرض وهو يقول ساخطاً:

سهأ

ـ جمجمة خرساء... غبية.

ارتدى معطفه ليغادر المكان. خرج من البيت وعيناه لاتزالان تدمعان ألماً. جلس خلف مقود سيارته وانطلق مخلفاً وراءه سحابة ضخمة من الدخان.

وخلال ثوانٍ ومن داخل الغرفة انبعث صوت أنثوي حنون:

ـ أهذا هو أنت يا عزيزي؟!.