البحث العقلي في الجمالية العربية.. ( 1 – 4 ) الحس الجمالي

د. عبد القادر فيدوح

لقد أخفقت الجمالية العربية –بعد مجيء الإسلام مباشرة- في استثمار الرؤية الإسلامية التي تعرضت إلى كثير من مظاهر الحسن والجمال في هذا الكون امتثالا لقوله تعالى: }ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون{. وقوله: }إن الله جميل يحب الجمال{.. (القرآن الكريم). وأكثر من ذلك فإن الجمالية العربية راحت تتجاوز الرؤية الإسلامية للجمال وتتخطاها، وترى في الشعر الجاهلي القدوة الحسنى والمثل الأعلى، بوصفه نموذجا كاملا للجمال، فربطت نفسها بأنساق حسية حرمتها نقلة لها قيمتها المعنوية والروحية ضمن طبيعة التعامل مع المقوم الجمالي للإنسان في تعامله الإنساني، وفي تعاطيه التفكر والتدبر في الخلق والكون.‏

الوعي الجمالي

ولعل عدم اهتمام العرب في هذه الحقبة التاريخية بالوعي الجمالي، يتجسد في عوامل كثيرة أفرزتها أوضاع المجتمع العربي الناشئ. كما أفرزها الفهم المتجدد للشرع، ومخاوف الفقهاء، ويمكن حصر هذه المعوقات في النقاط التالية:‏

1- الاعتقاد بأن الشعر الجاهلي يمثل النموذج الأكمل؛ على اعتبار أن الاهتمام الأكبر كان منصبا على الجانب الحسي، ومن هنا تمظهر الجمال في التناسب والتناسق والترتيب وحسن الابتداء وحسن التخلص وجمال اللفظ، فصار إدراك الجميل والانفعال به إدراكا حسيا.

2- تخطي القرآن الكريم وتجاوزه إلى غيره تأثرا بالجمالية الإغريقية، وفي هذا تأكيد للعنصر الأول حيث توافق الشعر الجاهلي بنماذجه مع النظرة الإغريقية للجمال في جميع مجالاته التمظهرية.‏

3- كون معظم النقاد فقهاء وقضاة. وهنا تولى الشرع مسألة التقويم عندما تدخل رجاله "بالمنع والتحريم لبعض الفنون، وبذلك عطلوا توجيه الإحساس بالجمال عند المسلمين إلى موضوعات هذه الفنون، بل لقد تعطل إنتاجها تماما في بعض البلاد الإسلامية في المشرق ونخص منها بالذكر النحت؛ فلقد خيل لرجال الشرع أن صنع التماثيل على هيئة المخلوقات إنما يعد مشاركة للخالق في صنعه. ولكن الواقع أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذا التحريم هو مخافة رجال الشرع من أن ينتكس المسلمون إلى عبادة الأوثان، فجاء المنع حتى لا ترتبط شواهد هذا الفن من تماثيل بشرية أو حيوانية، بذكريات العرب في الجاهلية عن أصنامهم، وكأن رجال الشرع يريدون أن يقطعوا الصلة تماماً بين هذا الماضي الوثني والحاضر الإسلامي".. (فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة د. محمد علي أبو ريان).

فكرة يهودية

غير أن الحقيقة الكامنة وراء تحريم الشرع لبعض الفنون بخاصة فن التصوير وما تابعه من فنون تشكيلية أخرى إنما مرده تشرب هذه الفكرة من الديانة اليهودية، وذلك بالرجوع إلى إحدى الوصايا العشر للدين اليهودي، فجاء النص في العهد القديم على النحو التالي: ...لا تضع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما، مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض".. (العهد القديم –سفر الخروج- الإصحاح العشرون).‏ فنقلت إلى الإسلام تلفيقا بدافع التشويه ولم يمنع هذا التحريم المسلمين في الأندلس من أن يبرعوا في فن النحت، فتصدر عنهم وحدات فنية رائعة كما نشاهد في تماثيل السباع في قصر الحمراء بغرناطة. أما من ناحية التصوير وعلى الأخص تصوير الأشخاص والحيوانات، فقد كان للمنع تأثيره في بلاد المشرق في أول الأمر ولم يشذ عن هذا سوى الفرس الذين لم يأبهوا كثيرا بتحريم التصوير وذلك انسياقا مع تراثهم الفني القديم. ولم يلبث المسلمون في العصور المتأخرة أن دخلوا هذا الميدان وخصوصا فيما يتعلق بالتصوير على النسيج، أو صفحات المخطوطات أو مقابض السيوف وجدران القصور أو المساجد، وذلك على صورة مصغرات تعد من أبرع الأعمال الفنية في مجال الفن الزخرفي، فظهرت أربع مدارس رئيسية هي المدرسة العربية والإيرانية والهندية والمغولية والتركية العثمانية".. (فلسفة الجمال.. محمد علي أبو ريان).

خطأ التأويل

وحتى في الحالة التي يكون فيها الشرق قد اعتمد على بعض الأحاديث النبوية الشريفة، فإن سوء الفهم، وخطأ التأويل حاد بهم عن الصواب، ووجههم التوجيه المعاكس بخاصة ما كان يصدر منهم في حجج قراءاتهم للشرع في عهد المتوكل العباسي والذي اعتمد على أحاديث شريفة يؤكد النووي صحتها ومنها قول الرسول لعائشة (يعذب المصورون يوم القيامة) وقد رأى أبو علي القالي أن قول الرسول يتجه إلى منع عمل خطير من مفهوم الإسلام وهو تصوير الله تصوير الأجساد، وإن المنع إنما يقتصر على ذلك، وفي رأيه أن الحديث الشريف إنما يعني: " يعذب المصورون الذين يصورون الله تصوير الأجساد" إلا أن أنصار المنع كان لهم دور كبير في عدم الاهتمام بالتصوير التشبيهي والانصراف إلى الفن التجريدي. وقد تكون المذاهب الدينية قد مارست دورها في تشجيع التشبيه أو في منعه. إذ أن التشبيه الفني في منطقة المذاهب الشيعية لم يكن محرما بينما كان في المنطقة السنية أقل انتشارا وأوضح ارتباطا بالمنع الذي تأكد لديهم من الحديث الشريف.. (الجمالية العربية.. مقال للدكتور عفيف بهنسي).

حيز للتحريم

لذلك أخذ مفهوم التحريم حيزه الأوفر عند مفسرينا القدامى الذين ابتعدوا في ذلك عن الفهم الحقيقي للمصادر الأساسية اعتقادا منهم أن فن التصوير التشبيهي مساس ببيان صفات الله للامتثال الظاهري، فانطبعت النشاطات الفنية بطابع هذه الرؤية الخاطئة. غير أن الحقيقة عكس ذلك من حيث كون الفنون –والتشكيلية منها على وجه الخصوص –تتيح لنا إلقاء نظرة أخرى على الحضارة الإسلامية. فالفن الإسلامي يعرب عن تصور للعالم يحدد بآن واحد مصيره، وصيغه ومفرداته التشكيلية وتقنياته. ذلك أن المفهوم الإسلامي عن العالم لا يحض على التمثيل الواقعي وإن اقترفنا بهذا الصدد خطأ التأويل وزعمنا أن القرآن يمنع تمثيل الكائنات البشرية بينما هو يقتصر على خطر عبادة الأوثان.. (روجي غارودي: حوار الحضارات، ترجمة عادل العوا).

عقيدة التوحيد

ومما لا شك فيه أن الفن الإبداعي في حياة المسلمين –خلال هذه الحقبة الزمنية وما تلاها- نشأ شأن كل إبداع إنساني دون أن يهمل تفاعله الحميم مع عقيدته التوحيدية، وينبوع أفكاره الفلسفية –تباعا- على الرغم مما كان يطبعه من إحساس مرهف قائم على فكرة التجسيد الظاهري في قيم الأشياء فكانت إبداعاته الفنية الزخرفية، مثلا، رسالة جمالية معبرة عن روح طامحة إلى الكمال والخلود عبر اتصالها –الصوفي- بالخالق المبدع، فاطر الأكوان ومبدع كل جمال، فكان لجوء فناني الزخرفة المسلمين إلى التجريد نتيجة لرقي المستوى الفكري والذهني والإحساس الفني لديهم، وليس لسبب مزعوم من تحريم تصوير الكائنات الحية، أو العاقلة، ولما كان المصدر الوحيد لهذا الفن النفس الإنسانية للمبدع، فقد انطبع مضمونه بطابعها، فكان المضمون دائما إفصاحا جماليا مرهفا عن عقيدته التوحيدية الراسخة في قلب صوفي تعبدي، تأملي، ناسك، يتجه باطراد إلى إبراز الجماليات الخالدة –وليس العابرة- في إبداعات تتعلق بالجمال المعنوي الروحي في الإنسان، وليس الجماليات الآتية الموجهة إلى الحس أو الغريزة أو الشهوة لديه.. (فن الزخرفة الإسلامية، مقال للؤي داخل).

‏أمام هذا التوجه الجمالي للفنانين المسلمين –المترجم لعقائدهم وأفكارهم – كان من الحتمي أن ينشأ عندهم ذوق جديد يستمد مقوماته من الجمال الروحي، لا سيما أن حضور المبدع الأكبر أضحى أقرب مصدر للجمال والكمال لديهم، ولذلك كانت محاولاتهم الفنية هي إبراز الجمال اللامتناهي المتجلي في الذات الإلهية.‏