قصة قصيرة - محمد عبد الملك

أشعر في هذا الشارع بالخطر وأتوقع صدمة مفاجئة في أي لحظة. رغم ذلك لا أفتح عيني لأرى ما حولي. أرتاح للفحيح الصادر من العربات وهي تمس كتفي مسرعة مندفعة. كنت أعرف أيضا أنني سأبقى نائماً لفترة طويلة من الوقت متربصاً ومتحاشياً الشاحنات المسرعة، كنت أبعث الخوف في السواق والعربات، الخوف من دهسي تحت العجلات، كانوا يخشون موتي في أي لحظة، أما أنا فلم أكن أفكر في اليقظة.

كان سيري حثيثاً وهادئاً ولم أفكر حتى في الوجهة التي أذهب إليها. انشغلت بالخطر. وتوقعت أن يحدث مكروها مشتركا. كنت أسمع السابلة وهو يحذرون بعضهم بعضاً:



الرجل النائم!

كنت أعرف ما يفكرون فيه، وأسمع ما يدور بينهم وأبتسم. أرى ابتسامتي المستريحة وروحي الناعسة، سعيداً بهذا الاهتمام بي.. لا ألتفت إلى الطوابير الطويلة للسيارات التي توقفت على الرصيفين لتترك لي مجالاً للمرور وترعى نومي في دهشة. أشعر بمتعة. لقد قطعت مسافة من الطريق الذي يستوطنه الضجيج، وتدب فيه الخطوات وتضرب الأرض بأصوات مسموعة. اطمأنوا إلى زوال الخطر.

ذلك أشعرنا جميعاً بالاطمئنان. بقى شيء واحد يشكل مصدر اهتمامهم، هذا السحر الذي أمتلكه، هذا المزج بين النوم واليقظة، كنت أسمع صيحات الاعجاب من حولي وسعادة الأطفال بهذه اللعبة الطريفة، واعتقدت مع الاطمئنان إني أرى الشارع تماماً، وأتابع حركته، لم أكترث لهذا السبب لأي شيء آخر سوى الاستمرار في النوم وإدهاش الآخرين.

ما حدث بعد ذلك كان مثيراً بالنسبة لي، بدأ الأطفال أولاً، حاولوا تقليدي بمد أيديهم إلى الأمام وإغماض عيونهم مثلي، كان آبائهم يزجرونهم فيعيدون المحاولة من دون توقف، لا بد أن اللعبة استهوتهم كثيراً والناس من حولي يدهشون من قدرتي على السير مغمض العينين من دون أن أدهس السابلة. وسمعت صوتاً مجهولاً على الرصيف يقول:

- لم نعرف بعد إن كان نائماً أم أعمى.

قال آخر:

- لو كان أعمى لحمل عصا في يده..

- فعلاً..

- ولو كان أعمى لم يملك هذه الثقة بالنفس، ولم يمشِ بهذه السرعة.



كنت انطلق شاعراً بالغبطة والفرح وسمعت صوتاً يقول:

في كلا الحالتين كيف يسير بسرعة من دون أن يدهس الآخرين كما يتجنب السيارات والشاحنات مثلنا تماماً.

وافقه الجميع، ورأيت الأطفال يغمضون عيونهم فترة طويلة من الوقت، ثم راح الآباء يقلدون الصغار. وتمادى الأطفال عندما شاركهم الكبار في اللعبة. أنا تماديت أكثر. شعرت بتفوقي على الآخرين، وقدرتي على جذبهم إلى أهدافي. ومن يدري قد يمضون خلفي من دون شعور أو تفكير. كان طموحي الآن أن أجرب هذه الفكرة. أن أجرب قدرتي على القيادة. كنت أشك أنني سأنجح وأشك أنني سأفشل. فلأرى ما يحدث. وسمعت صوتا من خلفي يقول لزميله:

- قد تشعر بالأمان وأنت نائم لأنك تنسى ما حولك.

وبدأت أصوات كثيرة ترتفع. بدا أني صرت الشغل الشاغل لهم وقال صوت:

- لقد رأيت رجلاً نائماً يسير في شارع المعارض قبل أيام.

- قد يكون هو نفس الرجل؟

- وقد يكون غيره.

- ما سر هذه الظاهرة؟

- الهروب من الحياة.

- وكيف نهرب من الحياة؟

- بقمع الحواس والرغبات.

وقال آخر:



- هذا غير ممكن.

كنت أمضي خبباً ولا ألتفت إلى الرصيفين، ولا إلى الوراء، وعندما وصلت إلى آخر الشارع رأيت حشداً كبيراً هائلاً من الرجال والنساء والأطفال يغمضون عيونهم ويسيرون خلفي ويثيرون جلبة مرحة ويضحكون.

قلت:

- إنهم يتبعونني بالفعل. إنني أقودهم الآن بمحض اختيارهم وأستطيع أن أختار لهم الطريق وأفكر بالنيابة عنهم وأشكل حياتهم. إنهم جهلاء ولا يفكرون في ما يجري. لقد ارتضوني قائداً عن قناعة. كان ذلك خيارهم وحدهم، لم أدعوهم لتقليدي أو السير خلفي ولم انتظر أن يتبعني كل بشر المدينة. ورأيت حشوداً من شوارع كثيرة تتبع الحشود الأولى. لقد شاع خبري وتحدثوا عن سحري ومعجزاتي ولا بد أنهم ظنوا أنني مرسل من السماء لإنقاذهم. لقد ظهرت طاقاتي الخارقة.

قال أحدهم:

- إنه ساحر!

وقال آخر: لا يملك هذه الطاقة إلا الأولياء.



كان علي الآن أن أختار لهم ما أريد، سيبقون هكذا سائرين خلفي، لقد استمتعوا باللعبة، وأرى ابتسامات كبيرة تشق وجوههم، وها هو حوارهم المرح يتصاعد وبإمكاني الآن خداعهم.

وانطلقت ضحكات عالية. ونسوا الأمكنة التي يقصدونها، وتركوا كل شيء خلفهم، وحذروا بعض من تعكير صفو اللعبة، كأنهم يكتشفون دواء لمرض قديم مزمن. لقد شعروا بالصفاء مثلي. ثم سمعت من يقول:



- إن هذا الزعيم قادر على توجيهنا.

قال آخر:

- الأولياء يأتون بالمعجزات.

استمتعت بهذا الإطراء، وفكرت بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقي. وتمنيت أن تذهب هذه اليقظة، أو يهرب ذلك النوم. كنت أفكر في مصير هؤلاء الذين استهوتهم اللعبة. كنت أريد أن أهرب من حياتهم، وأذهب بعيداً. كنت أريد التخلص منهم، والنجاة بنفسي، وإذ بهم يتبعوني إلى حيث لا أريد، كنت أفكر في الحل فقادني عقلي الباطن إلى الاستمرار في العبث. قلت لأجرب إلى أي مدى هم جهلة ومساكين وسذج.



تذكرت قصة الحاوي الذي قاد الفئران إلى النهر، صعقتني الفكرة، ووجدتني أسعى في اتجاه النهر الذي يقع خلف الكورنيش الجميل للمدينة، حيث تقف السفن المملوءة بالمصابيح في الليل، كانت المدينة تمشي خلفي متزاحمة، وأنا أسعى إلى النهر مسرعاً، والنهر يفتح شواطئه وذراعيه، ويحفر عمقه لاستقبالنا. وأمواج النهر تتلاطم، والمراكب الصغير المرحة تقفز كالطيور، بأشرعتها البيضاء.. عندما دخلنا النهر، ضجت النوارس فوق رؤوسنا، كنت أتقدم في النهر وهم يسيرون خلفي، وبدأت المياه تغمر صدورنا. وسرنا ذاهبين إلى العمق واللجة، ثم بدأت المياه تصل الأعناق. لم أتوقف. كنت أتقدم لأختبر قدرتهم على التفكير. كانت أصواتاً من خلفي تقول إن الموت في النهر شهادة.

كانوا مرحين جداً، وأثار دهشتي أنهم لا يعرفون السباحة على الإطلاق. كانوا يفكرون بطريقة بين الموت والحياة إلا خيط الصبح والليل "يجب أن نستمر" قال صوت واندفعوا بلا تفكير. كنت أعتقد الآن أنهم خشية من الموت، وعندما يشعرون بالغرق سيعودون القهقرى، لكن ما حدث كان فاجعا. فاض الماء إلى الأعلى. واندفعت وقفزت أمواج. سبحت طافياً على النهر، وغاصوا في أعماقه.