عندما تشدني الذكريات الجميلة لأناسٍ ينحتون بأسمائهم وبطيبتهم في أعماق مشاعرنا معانٍ جميلة ويخلدون فيها بذكرياتٍ رائعة لا تمحى، أتذكر المغفور لها بإذن الله، الأستاذة رقية سند العنبر، هذه الأم الروحية والأخت الحنون ومعلمتي الحبيبة إلى قلبي، أتذكرها عندما أذكر مدرستي مدرسة الحد الابتدائية للبنات، أتذكرها ونحن نلعب في ساحة المدرسة وصوت الجرس اليدوي في يديها، رغم ثقله، ولكن الابتسامة لا تفارق شفتيها تنادينا للانضباط في الطابور، وتشجعنا بكلماتها على التحصيل العلمي، فهي معلمة متفردة بحد ذاتها وعلم من أعلام البحرين ورمز من رموزها حصلت على التحصيل العلمي في وقتٍ مبكرٍ من حياتها وأصبحت بعد ذلك من المتميزين الذين وضعوا بصماتهم الواضحة في المسيرة التعليمية بالمملكة.
هي إحدى رائدات جيل الأربعينات، بدأت مشوارها التعليمي في "الكتاتيب" حيث درست القرآن الكريم على يد "المطوعة" في الفريج، وبعد ذلك التحقت بمدرسة الحد الابتدائية للبنات وعمرها سبع سنوات، وكانت مديرة المدرسة آنذاك الأستاذة لطيفة الزياني، وكان يطلق على الصف الأول في ذلك الوقت اسم "حديقة". كانت مجتهدة في دراستها وتذاكر دروسها على "الفنر" حيث لم تكن الكهرباء متوفرة وقتها. تخرجت من الصف السادس الابتدائي وحصلت بذلك على الشهادة الابتدائية في عام ١٩٥٣، وقد أهلها تخرجها لممارسة العملية التعليمية، حيث تم توظيفها في نفس المدرسة التي درست بها والتي أصبح اسمها الآن مدرسة أسماء ذات النطاقين الابتدائية للبنات. ومن أبرز اللاتي عملن معها في هذه المدرسة الأستاذة سميرة حليبي، والأستاذة مريم مال الله، والأستاذة لطيفة البنعلي، والأستاذة نيله حمد، وغيرهن الكثير.
كان عدد التلميذات في فصلها الدراسي عند التحاقها بالمسيرة التعليمية قليلاً يعد على الأصابع، مما ساعدها على تدريسهن والتركيز على تحصيلهن العلمي. وقد كانت تحفظ الكثير من القصص ولها أسلوبها الشيق والمميز في روايتها لطالباتها، تشد انتباههن لسماع هذه القصص دون مللٍ، بل يتمنين أن الحصة تطول، ومازلنا نتذكر تلك القصص أمثال قصة علاء الدين والمصباح السحري وقصة الأميرة والأقزام السبعة والكثير من القصص الأخرى المشوقة. حيث كانت تقوم بجدارة بتوظيف هذه القصص في العملية التعليمية كما كانت كذلك تقوم بتوظيف الأناشيد، فقد كانت موهوبة في النشيد والتلحين وتمتاز بعذوبة الصوت، فتقوم بتعليم اللغة العربية عن طريق الأناشيد لتيسر على الطالبات الحفظ، كما كانت تقوم بتدريس مادة الاجتماعيات باستخدام مجسم الكرة الأرضية وهي تشير عليها بضرباتٍ خفيفة لتشد الطالبات لمواقع الدول، وكانت أيضاً تتولى تدريس الرياضة وتعليم الألعاب الشعبية في ساحة المدرسة وهي تلبس الزي الشعبي "الثوب الكورار" مرددةً الأناشيد والأغاني الشعبية.
وكان لها كذلك اهتماماً خاصاً بالتلميذات ذوات الاحتياجات الخاصة، حيث كانت تقوم بتدريسهن وتشجيعهن، وتنظم الاحتفالات البسيطة لهن، وتحثهن على المزيد من العطاء، وكانت حلقة الوصل بين التلميذات وأسرهن،حيث كانت تعمل كباحثة اجتماعية في حل مشاكل الطالبات، وتزور أولياء الأمور أو تطلب منهم الحضور إلى المدرسة لتتابع حل مشكلاتهم.
ونتيجةً لارتفاع المستوى التحصيلي لطالباتها وتحقيقهن لنتائج متميزة، تمت ترقيتها إلى سكرتيرة، ثم التحقت ببرنامج تأهيلي تكميلي وحصلت على الشهادة التكميلية الثانوية من مدرسة المنامة في عام 1961م، كما حصلت على شهادة التأهيل التربوي من مركز التأهيل ومن ثم دبلوم الإدارة المدرسية من مركز التدريب، وعملت مديرة مساعدة في مدرسة أسماء ذات النطاقين الابتدائية الإعدادية للبنات إلى جانب مديرة المدرسة الأستاذة مريم مال الله، ثم تم نقلها إلى مدرسة المتنبي الابتدائية للبنين في المنامة كمديرة مساعدة أيضاً، ومن القصص التي تذكر لها في هذه المدرسة أن العاملات في المدرسة كن يتناولن فطورهن على الأرض، وكانت هي تمر على مباني المدرسة، فدعونها باستحياء لمشاركتهن، فما كان منها إلا أن جلست على الأرض وبدأت في تناول الطعام وهن ينظرن إليها باستغراب، فكيف لمديرة مساعدة أن تجلس مع عاملات وتتناول من طعامهن البسيط، ولكن هذه هي الأستاذة الفاضلة التي عرفت بطيبتها وتواضعها في التعامل مع الكل.
تم تعيينها لاحقاً مديرةً لمدرسة سكينة بنت الحسين في رأس رمان لمدة عامين، ومن ثم مدرسة أبو عبيدة ابن الجراح بالمحرق، وبعدها مديرةً لمدرسة السلمانية لمدة ثمان سنوات حتى تقاعدت في عام 2006م بعد خدمةٍ طويلة بلغت ثلاثةً وخمسين عاماً من العطاء المتواصل، ساهمت خلالها في وضع لبنات التعليم وحققت الكثير مما نحن عليه الآن من تطورٍ في المسيرة التعليمية بمملكة البحرين.
وقد ظلت رحمها الله بعد التقاعد تقوم دوماً بمتابعة بناتها اللاتي قامت بتدريسهن، وتقوم بالتواصل معهن وزيارتهن في المناسبات، وقد اعتادت الطالبات كذلك على زيارتها في كل المناسبات السعيدة والأعياد، وبالرغم من عددهن الكبير إلا أنها كانت تضمهن بيديها وتحت جناحيها، وهي فرحة ومستبشرة بزيارتهن، وعينيها تراقبان الباب بلهفة وتتفقد من لم تصل وتسأل عنهن، وتقدم لهن هدايا العيد والعيدية وقدوع العيد وتودعهن وهي تنظر إليهن وتدعو لهن بالخير. فقد كانت كثيراً ما تعتز بهن على الرغم من أنها لم تتزوج ولكنها ربت أجيالاً لنصف قرنٍ من الزمان، وعندما يسألونها عن أبنائها تقول بكل فخرٍ كل أبناء البحرين أبنائي.
ومن اللافت في هذه الشخصية المعطاءة أنها حصلت على العديد من الشهادات. فقد حصلت على شهادة شكر وتقدير من وزارة التربية والتعليم في عام ١٩٨٤م بمناسبة إتمامها 30 عاماً من العطاء المتواصل كانت خلاله مثالاً للإخلاص والأمانة. كما حصلت في عام ١٩٩٥م على شهادة تقدير لأدائها ذي النوعية العالية لفترة متواصلة من الزمن، تجاوزت فيها بوضوح المستوى المتوقع لوظيفتها كماً ونوعاً، وأظهرت من خلالها المهارات الفنية والتخصصية وحازت بموجبها على مكافأة علاوة نوعية العمل. وحصلت أيضاً في عام ١٩٩٧م على شهادة تقدير من وزارة التربية والتعليم لجهودها وعطائها المثمر خلال سنوات عملها التربوي في مجال التعليم. بالإضافة إلى حصولها في عام ١٩٩٨م على رسالة شكر وتقدير من صندوق الحد الخيري بالتعاون مع نادي الحد الرياضي والثقافي تكريماً لجهودها المخلصة التي بذلتها خلال مسيرتها التعليمية كمديرة مساعدة بمدرسة أسماء ذات النطاقين الابتدائية الإعدادية للبنات.
و لم تكتفِ رحمها الله بهذا القدر من العطاء، بل واصلت طريقها بعد التقاعد لتحقيق أهدافٍ أخرى، ولخدمة فئات أخرى في المجتمع. فقد انضمت إلى دار المحرق لرعاية الولدين في عام 2009م، وتطوعت مع زميلاتها وأخواتها في الدار لمساعدة كبار السن وذوي الإعاقة، كما قامت بزيارة لدار أخوات الخير بدولة قطر ومركز سليلة بالمملكة العربية السعودية وهو مركزٌ خاص بتـأهيل ذوي الإعاقة، وغيرها من البرامج والأنشطة التي ساعدت في تنظيمها أو قامت بالمشاركة فيها.
كما كان للجانب الأدبي من حياتها نصيب، فقد قامت بتأليف كتابها "خواطر قلب في حب البحرين"، والذي يضم كل الأشعار التي كتبتها في مختلف المناسبات الوطنية.
كما ألفت كتاباً آخر ـ لم ينشرـ بعنوان "كيف تربي الأم أبناءها في الزمن الماضي" والذي وضعت فيه خبراتها التربوية، ليتمكن أبناؤها من خلاله من معرفة الأسس التربوية التي استخدمت في تعليم الأجيال السابقة، وتركت لنا بذلك كنزاً مما عايشته وعاصرته فهي بحق موسوعة تاريخية.
انطفىء ذلك المصباح الذي أضاء سماء مدينة الحد لسنواتٍ عديدة، فقد رحلت عنا إلى جوار ربها في ١٢ يناير ٢٠١٣م، فاللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة وتغمدها برحمتك الواسعة وأسكنها فسيح جناتك.
فقد كانت رحمها الله نموذجاً رائعاً لنساء البحرين، ومثالاً متميزاً في عطائها الوطني لخدمة أبناء الوطن سواءً في الحياة العامة أو في مجال التربية والتعليم، حيث إنها ممن أثروا العمل بخبرتهم وكفاءتهم، وأضافوا الكثير من الأعمال البارزة والإنجازات الكثيرة، وتركوا وراءهم السيرة والصفحات البيضاء المضيئة في حب الوطن.رحم الله ضحكاتٍ لا تنسى وحديثاً لا يغيب عن البال.