بلومبرغ
حتى منذ القرن التاسع عشر، كان العاملون في المكاتب قد بدؤوا يتذمرون بالفعل من روتين العمل المكتبي المزعج.
في رسالة لكاتب المقالات البريطاني تشارلز لامب، في عام 1822، إلى الشاعر ويليام وردزورث، عبّر خلالها عن انزعاجه من العمل في مكاتب "شركة الهند الشرقية" الواقعة في شارع ليدنهال في لندن حينها، قائل لامب: "أنت لا تعرف كم هو مرهق أن تتنفس الهواء وأنت داخل هذه الجدران الأربعة الخانقة بلا راحة، يوماً بعد يوم".
لكن، خلال الـ17 شهراً الماضية، انتقل غالبية خلفاء لامب البريطانيين في العصر الحديث، للعمل من منازلهم، متحررين مما أسماه الكاتب حينها "الحبس الرسمي". حيث يواجه الموظفون ذوو الياقات البيضاء حالياً، تحولاً جذرياً في الحياة المهنية. وكما يقول أحد الاقتصاديين، فإن هذه النقلة بدأت بالفعل بزيادة الإنتاجية الاقتصادية بقوة، وتسريع وتيرة الابتكار.
أضعف تفشي الوباء، من جاذبية مراكز المدن، بالتزامن مع دخول قوى جديدة تعيد تشكيل الاقتصادات القائمة على المعرفة. تتراجع رحلات النقل العام إلى المدن، كما تتراجع مبيعات القهوة في مقاهيها الشهيرة، بينما يرتفع الطلب على العقارات في الضواحي، حيث تمتد الطبيعة الغناء. وقد قضى الأميركيون وقتاً أطول في الأنشطة الترفيهية في منازلهم خلال عام 2020، مستبدلين حياة التنقل الدائم، بالحياة الحقيقية.
وبينما يخلّف هذا التحوّل في الحياة المهنية عواقب مؤلمة للعديد من الشركات داخل مراكز المدن، إلا أن الاقتصاديين يرون أنه سينشط الضواحي والمدن الأصغر حجماً. في حين تترك الأدوات الرقمية الجديدة آثارها طويلة المدى، على قطاعات البيع بالتجزئة والضيافة، بالإضافة للصناعات القائمة على المعرفة.
من شأن العمل من المنزل ليوم واحد أسبوعياً أن يعزز الإنتاجية بنسبة 4.8% مع تطور اقتصاد ما بعد الوباء، وذلك وفقاً لدراسة حديثة أجريت على أكثر من 30 ألف موظف أميركي، شارك في إعدادها خوسيه ماريا باريرو، من "المعهد التقني المستقل" بالمكسيك، وباحثون آخرون. ومن المتوقع أن يأتي جزء كبير من هذه الزيادة بالإنتاجية، جراء انخفاض وقت التنقل، وهو عامل عادةً ما لا يلاحظه خبراء الاقتصاد.
يعتقد ستيفن جيه ديفيس، من "جامعة شيكاغو"، الذي يدرس أماكن العمل الناشئة، وهو أحد مؤلفي دراسة الإنتاجية، أن هذا التحوّل سينتج عن فوائد طويلة المدى، قائلاً:
ما بعد الوباء
وفي تصريح له يوم 17 أغسطس، أشار رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إلى حدوث تحوّل جوهري، وقال: "نحن نعلم جميعاً أننا لن نعود ببساطة إلى اقتصاد ما قبل الوباء، لكن رؤية طبيعة التغييرات التي ستحدث بالتحديد، سيستغرق وقتاً ". وأضاف باول:
يبدو أن استمرار تواجد العمل عن بعد بقوة في المستقبل، هو أمر شبه مؤكد، وبالتالي سيغير هذا طبيعة العمل، والطريقة التي تنجز بها الأعمال
مما لا شك فيه أن الأدلة على تزايد الإنتاجية جراء العمل عن بعد، ظهرت قبل تفشي "كوفيد-19". ففي عام 2013 وجدت دراسة رائدة أجراها، نيكولاس بلوم من "جامعة ستانفورد" أن العمل عن بعد، عزز الإنتاجية بنسبة 13%. كذلك، كشفت ورقة بحثية من "جامعة أكسفورد" في عام 2019 أن الموظفين السعداء، نجحوا بإتمام المزيد من صفقات البيع.
ومن المقرر أن تولي الدول ذات سجلات الإنتاجية الراكدة اهتماماً كبيراً للأمر.
ففي عام 2019، كان اتجاه الإنتاجية الإجمالي لعوامل الإنتاج في بريطانيا أقل بنسبة 15% عما كان عليه قبل الأزمة المالية، بحسب "بلومبرغ إيكونوميكس"، وهو ركود لم يحدث له مثيل منذ عهد الكاتب تشارلز لامب، تفاقم ذلك مع خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، وشيخوخة السكان والوباء. ولقد كافح الأوروبيون لحل هذه المشكلة طويلاً، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة.
اختلال البيانات
رغم كل التفاؤل المحيط بهذه التغيرات الهيكلية، فإن بعض الاقتصاديين يشيرون إلى ضرورة توخي الحذر. وبالرغم من أن الأبحاث الأخيرة من البنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو تقر بأن التغييرات الشاملة التي طرأت على ممارسة الأعمال التجارية عززت الكفاءة، إلا أنها تحذر أيضاً من إرجاع المكاسب الأخيرة في الإنتاجية إلى زيادة مستويات العمل في المنزل، مستشهدة بوجود اختلال في البيانات.
حتى أن البنك المركزي البريطاني قد نبّه أن بيئة الاجتماعات الهجينة "قد تكون أكثر تحدياً". كما يقلق غالبية المدراء بشأن تأثير العمل من المنزل، على مفاهيم التعاون وثقافة الشركة والصحة الشاملة للعمل، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي أشارت أيضاً إلى مخاوف أصحاب العمل إزاء ضعف قدرتهم على مراقبة الموظفين أثناء العمل.
ووجدت دراسة، أجريت بقيادة مايكل جيبس من "جامعة شيكاغو"، أن الموظفين يستغرقون ساعات أطول في المنزل لأداء نفس المهام، حيث ينقسم وقت العمل بسبب العوامل الكثيرة المشتتة للانتباه في المنزل، مثل رعاية الأطفال والاجتماعات عبر الإنترنت. وأشار التقرير أيضاً إلى أن الأشخاص العاملين من المنزل قد يبالغون في إنتاجيتهم المنجزة في الاستطلاعات لتشجيع تبني هذه الممارسة. بينما كان المستشار السابق للحكومة البريطانية، جيلز ويلكس، أكثر تفاؤلاً تجاه الأمر، حيث يقول إن "القدرة على تقديم المنتجات في أماكن مختلفة، وتحقيق استخدام أكثر كفاءة للممتلكات، وغيرها من الأمور، تُعد إنتاجية معززة الابتكار".
ويوضح ويلكس، الذي نشر مؤخراً تقرير حول مشاكل الإنتاجية في بريطانيا أن "العمل الهجين يخلق تغييراً في أنماط العرض والطلب، بطريقة تعزز الوضع الاقتصادي".
التحرر من أعباء التنقل
أحد العاملين في هذه البيئة الجديدة، هو يوري سوزوكي، الذي يقول إنه لم يشتاق أبداً لرحلة تنقله اليومية التي تستغرق 70 دقيقة إلى العمل، حيث كان الشريك في وكالة التصميم الدولية "بينتاغرام" معتاداً على قطع هذه المسافة لعمله عبر خط المترو المركزي في لندن، وهو يصف هذه الرحلة بالـ"السامة".
قال سوزوكي في مكالمة عبر تطبيق "زووم" من منزله في بلدة مارغيت الساحلية بكينت، حيث يعيش منذ بدء الوباء: "كنت عند عودتي إلى المنزل، أشعر بالإرهاق، ولا أستطيع التفكير حقاً، أو فعل أي شيء".
مع تحرره من أعباء التنقل، بات سوزوكي قادراً على "استثمار" الوقت في التفكير الإبداعي لفترة أطول بعد ساعات العمل الرسمية، وهو ما رفع إنتاجيته، حيث نفذ فريقه ضعف عدد المشاريع التي كانوا يعملون عليها قبل الوباء. وللتواصل مع فريق عمله، يخطط سوزوكي أن يعود إلى الدوام من المكتب، مرة واحدة أسبوعياً.
في هذه المرحلة، ومع انتشار سلالة دلتا بسرعة حول العالم، تعلّق العديد من الشركات خططها للعودة إلى المكاتب، لكن الأدلة المستمدة من تفشي الوباء على مدى 18 شهر تقريباً، تساعد في توفير معلومات عن قرارات رؤساء العمل.
ترغب مجموعة من الشركات، الجديدة والقديمة على حد سواء، بالتوفيق بين مزايا العمل عن بُعد وكفاءة الاجتماعات التفاعلية وجهاً لوجه. فعلى سبيل المثال، تعتزم شركة "غوغل"، التابعة لشركة "ألفابت"، السماح للموظفين بقضاء يومين "في أي مكان يعملون فيه بشكل أفضل". كذلك تحذو حذوها شركة "لازارد" مع بعض موظفيها، وهي شركة استشارات مالية عمرها 171 عاماً.
وفي 16 أغسطس، قالت شركة إدارة الأصول "ستيت ستريت كورب" إنها ستغلق مكاتبها في مانهاتن. فحتى عمالقة الأعمال المصرفية قالوا إنهم سيوفرون بعض المرونة، حيث يرى جيمس جورمان، الرئيس التنفيذي لشركة "مورغان ستانلي"، أن العمل المكتبي "لا يجب أن يستحوذ على نسبة 100%، ولكن لا يجب أن يشكّل 0% أيضاً" من إجمالي ساعات العمل.
تقول كيارا كريسكولو، التي تعمل على أبحاث الإنتاجية لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن "كلاً من الموظفين والمدراء يقولون إن العمل من المنزل لمدة يومين إلى 3 أيام في الأسبوع هو أمر مثالي". وأوضحت أن التواصل والعلاقات المهنية، يمكن أن تتضرر من ذلك.
توزيع أكثر إنصافاً
بات أسلوب العمل الهجين يترسخ بين الموظفين المتعلمين وذوي الأجور الجيدة، بينما لا تمتلك نحو نصف القوى العاملة هذا الخيار، وفقاً لـ"معهد ماكنزي العالمي". في المملكة المتحدة، مارس 36% فقط من الموظفين أعمالهم عن بعد، خلال عام 2020، حتى أثناء عمليات الإغلاق.
ومع ذلك، فإن إتمام المزيد من مهام العمل بعيداً عن المكاتب التقليدية يعني أن الموظفين سيشاركون ثرواتهم ومعارفهم التجارية مع مجموعة أوسع من المجتمعات، وسينتج عن ذلك توزيعاً أكثر إنصافاً للمكاسب الاقتصادية، وفقاً لأبيغيل آدامز براسل، الاقتصادية في "جامعة أكسفورد".
لكن هذا الأمر سيكون له بالمقابل بعض العواقب المؤلمة، فالمقاهي والمتاجر ومراكز تصفيف الشعر الواقعة في قلب المدينة والتي تخدم المهنيين عادة ستكون الأكثر تعرضاً لهذه العواقب. ويحسب بلوم وديفيز وباريرو، فإن التحوّل إلى العمل الجزئي من المنزل، سيضر بالإنفاق السنوي في مراكز المدن الأمريكية الرئيسية مقارنة بمستويات ما قبل الوباء، متوقعين أن تشهد مانهاتن وحدها انخفاضاً بنسبة 13%.
يقر ويلكس بأن "الكثير من الأفراد" سيتضررون من عملية التغيير، لكنه يقول، إنه على الرغم من ذلك، فإن "التغييرات التي أجبرنا عليها ستكون مفيدة بشكل عام".
ويعتقد ديفيس أن العمل الهجين سينجم عنه أيضاً مشاركة أكثر تنوعاً في القوى العاملة، ما يحد من مشكلات الإنتاجية طويلة الأمد، وذلك "من خلال الاستفادة من مهارات الأشخاص الذين لم يكونوا يعملون، أو لا يعملون كثيراً"، وهذا يشمل الأمهات والأشخاص الذين يعيشون خارج المدن الكبرى.
قال مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني إن المرونة في العمل من المنزل، قد تشجع العمال الأكبر سناً على البقاء في القوى العاملة لفترة أطول، وهو أمر يشكل أولوية للاقتصادات التي تعاني شيخوخة السكان.
ثقافة جديدة
في عام 2017، بدأت الذراع الأمريكية لشركة الاستشارات "برايس ووتر هاوس كوبرز" تعزيز بعض جوانب العمل الهجين، مثل إتاحة المرونة في مكان ووقت العمل، ومنح التدريب على تكنولوجيا العمل عن بُعد للموظفين، على حد قول مايكل فينلون، كبير موظفي الشركة.
وفي عام 2018، وجدت "جامعة جنوب كاليفورنيا" أن فرق العمل تعمل بشكل أفضل عن بعد، وتحسن مستوى البقاء في الأعمال، وقد ازداد التركيز على هذا الموضوع منذ تفشي "كوفيد-19".
يقول فينلون: "تعلمنا في فترة ما قبل الوباء أن ثقافة الثقة ضرورية لاستمرارية الصحة العامة والمرنة للأعمال، فقد كانت فرق العمل التي تبنت هذه الثقافة تفيد بوجود علاقات وتعاون أقوى، وعمل جماعي أفضل، وعلاقات أمتن مع العملاء. لقد استفدنا من الوباء وأصبحنا أكثر تصميماً ووضوحاً".
والآن، يتصارع أرباب العمل حول العالم مع هذا التحوّل، وهم يحاولون الموازنة بين نمو الإنتاجية والحفاظ على قدرة الموظفين على الإبداع والشعور بالسعادة.
أتت محاولات حل هذه المعضلة بعد 199 عاماً من معاناة تشارلز لامب معها، حيث كتب في رسالته إلى الشاعر وردزورث، في عام 1822 أيضاً: "نظرياً أريد الاستمتاع بالحياة، لكن ما أقوم به يتعارض مع ذلك"، وقد كان يأسف على الأعوام التي قضاها في المكاتب المختنقة بالدخان.
وفي الوقت الحالي، سيكتشف خلفاء لامب ومدرائهم قريباً، ما إذا كان بإمكانهم تطبيق نظرياتهم الخاصة.
حتى منذ القرن التاسع عشر، كان العاملون في المكاتب قد بدؤوا يتذمرون بالفعل من روتين العمل المكتبي المزعج.
في رسالة لكاتب المقالات البريطاني تشارلز لامب، في عام 1822، إلى الشاعر ويليام وردزورث، عبّر خلالها عن انزعاجه من العمل في مكاتب "شركة الهند الشرقية" الواقعة في شارع ليدنهال في لندن حينها، قائل لامب: "أنت لا تعرف كم هو مرهق أن تتنفس الهواء وأنت داخل هذه الجدران الأربعة الخانقة بلا راحة، يوماً بعد يوم".
لكن، خلال الـ17 شهراً الماضية، انتقل غالبية خلفاء لامب البريطانيين في العصر الحديث، للعمل من منازلهم، متحررين مما أسماه الكاتب حينها "الحبس الرسمي". حيث يواجه الموظفون ذوو الياقات البيضاء حالياً، تحولاً جذرياً في الحياة المهنية. وكما يقول أحد الاقتصاديين، فإن هذه النقلة بدأت بالفعل بزيادة الإنتاجية الاقتصادية بقوة، وتسريع وتيرة الابتكار.
أضعف تفشي الوباء، من جاذبية مراكز المدن، بالتزامن مع دخول قوى جديدة تعيد تشكيل الاقتصادات القائمة على المعرفة. تتراجع رحلات النقل العام إلى المدن، كما تتراجع مبيعات القهوة في مقاهيها الشهيرة، بينما يرتفع الطلب على العقارات في الضواحي، حيث تمتد الطبيعة الغناء. وقد قضى الأميركيون وقتاً أطول في الأنشطة الترفيهية في منازلهم خلال عام 2020، مستبدلين حياة التنقل الدائم، بالحياة الحقيقية.
وبينما يخلّف هذا التحوّل في الحياة المهنية عواقب مؤلمة للعديد من الشركات داخل مراكز المدن، إلا أن الاقتصاديين يرون أنه سينشط الضواحي والمدن الأصغر حجماً. في حين تترك الأدوات الرقمية الجديدة آثارها طويلة المدى، على قطاعات البيع بالتجزئة والضيافة، بالإضافة للصناعات القائمة على المعرفة.
من شأن العمل من المنزل ليوم واحد أسبوعياً أن يعزز الإنتاجية بنسبة 4.8% مع تطور اقتصاد ما بعد الوباء، وذلك وفقاً لدراسة حديثة أجريت على أكثر من 30 ألف موظف أميركي، شارك في إعدادها خوسيه ماريا باريرو، من "المعهد التقني المستقل" بالمكسيك، وباحثون آخرون. ومن المتوقع أن يأتي جزء كبير من هذه الزيادة بالإنتاجية، جراء انخفاض وقت التنقل، وهو عامل عادةً ما لا يلاحظه خبراء الاقتصاد.
يعتقد ستيفن جيه ديفيس، من "جامعة شيكاغو"، الذي يدرس أماكن العمل الناشئة، وهو أحد مؤلفي دراسة الإنتاجية، أن هذا التحوّل سينتج عن فوائد طويلة المدى، قائلاً:
ما بعد الوباء
وفي تصريح له يوم 17 أغسطس، أشار رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إلى حدوث تحوّل جوهري، وقال: "نحن نعلم جميعاً أننا لن نعود ببساطة إلى اقتصاد ما قبل الوباء، لكن رؤية طبيعة التغييرات التي ستحدث بالتحديد، سيستغرق وقتاً ". وأضاف باول:
يبدو أن استمرار تواجد العمل عن بعد بقوة في المستقبل، هو أمر شبه مؤكد، وبالتالي سيغير هذا طبيعة العمل، والطريقة التي تنجز بها الأعمال
مما لا شك فيه أن الأدلة على تزايد الإنتاجية جراء العمل عن بعد، ظهرت قبل تفشي "كوفيد-19". ففي عام 2013 وجدت دراسة رائدة أجراها، نيكولاس بلوم من "جامعة ستانفورد" أن العمل عن بعد، عزز الإنتاجية بنسبة 13%. كذلك، كشفت ورقة بحثية من "جامعة أكسفورد" في عام 2019 أن الموظفين السعداء، نجحوا بإتمام المزيد من صفقات البيع.
ومن المقرر أن تولي الدول ذات سجلات الإنتاجية الراكدة اهتماماً كبيراً للأمر.
ففي عام 2019، كان اتجاه الإنتاجية الإجمالي لعوامل الإنتاج في بريطانيا أقل بنسبة 15% عما كان عليه قبل الأزمة المالية، بحسب "بلومبرغ إيكونوميكس"، وهو ركود لم يحدث له مثيل منذ عهد الكاتب تشارلز لامب، تفاقم ذلك مع خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، وشيخوخة السكان والوباء. ولقد كافح الأوروبيون لحل هذه المشكلة طويلاً، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة.
اختلال البيانات
رغم كل التفاؤل المحيط بهذه التغيرات الهيكلية، فإن بعض الاقتصاديين يشيرون إلى ضرورة توخي الحذر. وبالرغم من أن الأبحاث الأخيرة من البنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو تقر بأن التغييرات الشاملة التي طرأت على ممارسة الأعمال التجارية عززت الكفاءة، إلا أنها تحذر أيضاً من إرجاع المكاسب الأخيرة في الإنتاجية إلى زيادة مستويات العمل في المنزل، مستشهدة بوجود اختلال في البيانات.
حتى أن البنك المركزي البريطاني قد نبّه أن بيئة الاجتماعات الهجينة "قد تكون أكثر تحدياً". كما يقلق غالبية المدراء بشأن تأثير العمل من المنزل، على مفاهيم التعاون وثقافة الشركة والصحة الشاملة للعمل، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي أشارت أيضاً إلى مخاوف أصحاب العمل إزاء ضعف قدرتهم على مراقبة الموظفين أثناء العمل.
ووجدت دراسة، أجريت بقيادة مايكل جيبس من "جامعة شيكاغو"، أن الموظفين يستغرقون ساعات أطول في المنزل لأداء نفس المهام، حيث ينقسم وقت العمل بسبب العوامل الكثيرة المشتتة للانتباه في المنزل، مثل رعاية الأطفال والاجتماعات عبر الإنترنت. وأشار التقرير أيضاً إلى أن الأشخاص العاملين من المنزل قد يبالغون في إنتاجيتهم المنجزة في الاستطلاعات لتشجيع تبني هذه الممارسة. بينما كان المستشار السابق للحكومة البريطانية، جيلز ويلكس، أكثر تفاؤلاً تجاه الأمر، حيث يقول إن "القدرة على تقديم المنتجات في أماكن مختلفة، وتحقيق استخدام أكثر كفاءة للممتلكات، وغيرها من الأمور، تُعد إنتاجية معززة الابتكار".
ويوضح ويلكس، الذي نشر مؤخراً تقرير حول مشاكل الإنتاجية في بريطانيا أن "العمل الهجين يخلق تغييراً في أنماط العرض والطلب، بطريقة تعزز الوضع الاقتصادي".
التحرر من أعباء التنقل
أحد العاملين في هذه البيئة الجديدة، هو يوري سوزوكي، الذي يقول إنه لم يشتاق أبداً لرحلة تنقله اليومية التي تستغرق 70 دقيقة إلى العمل، حيث كان الشريك في وكالة التصميم الدولية "بينتاغرام" معتاداً على قطع هذه المسافة لعمله عبر خط المترو المركزي في لندن، وهو يصف هذه الرحلة بالـ"السامة".
قال سوزوكي في مكالمة عبر تطبيق "زووم" من منزله في بلدة مارغيت الساحلية بكينت، حيث يعيش منذ بدء الوباء: "كنت عند عودتي إلى المنزل، أشعر بالإرهاق، ولا أستطيع التفكير حقاً، أو فعل أي شيء".
مع تحرره من أعباء التنقل، بات سوزوكي قادراً على "استثمار" الوقت في التفكير الإبداعي لفترة أطول بعد ساعات العمل الرسمية، وهو ما رفع إنتاجيته، حيث نفذ فريقه ضعف عدد المشاريع التي كانوا يعملون عليها قبل الوباء. وللتواصل مع فريق عمله، يخطط سوزوكي أن يعود إلى الدوام من المكتب، مرة واحدة أسبوعياً.
في هذه المرحلة، ومع انتشار سلالة دلتا بسرعة حول العالم، تعلّق العديد من الشركات خططها للعودة إلى المكاتب، لكن الأدلة المستمدة من تفشي الوباء على مدى 18 شهر تقريباً، تساعد في توفير معلومات عن قرارات رؤساء العمل.
ترغب مجموعة من الشركات، الجديدة والقديمة على حد سواء، بالتوفيق بين مزايا العمل عن بُعد وكفاءة الاجتماعات التفاعلية وجهاً لوجه. فعلى سبيل المثال، تعتزم شركة "غوغل"، التابعة لشركة "ألفابت"، السماح للموظفين بقضاء يومين "في أي مكان يعملون فيه بشكل أفضل". كذلك تحذو حذوها شركة "لازارد" مع بعض موظفيها، وهي شركة استشارات مالية عمرها 171 عاماً.
وفي 16 أغسطس، قالت شركة إدارة الأصول "ستيت ستريت كورب" إنها ستغلق مكاتبها في مانهاتن. فحتى عمالقة الأعمال المصرفية قالوا إنهم سيوفرون بعض المرونة، حيث يرى جيمس جورمان، الرئيس التنفيذي لشركة "مورغان ستانلي"، أن العمل المكتبي "لا يجب أن يستحوذ على نسبة 100%، ولكن لا يجب أن يشكّل 0% أيضاً" من إجمالي ساعات العمل.
تقول كيارا كريسكولو، التي تعمل على أبحاث الإنتاجية لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن "كلاً من الموظفين والمدراء يقولون إن العمل من المنزل لمدة يومين إلى 3 أيام في الأسبوع هو أمر مثالي". وأوضحت أن التواصل والعلاقات المهنية، يمكن أن تتضرر من ذلك.
توزيع أكثر إنصافاً
بات أسلوب العمل الهجين يترسخ بين الموظفين المتعلمين وذوي الأجور الجيدة، بينما لا تمتلك نحو نصف القوى العاملة هذا الخيار، وفقاً لـ"معهد ماكنزي العالمي". في المملكة المتحدة، مارس 36% فقط من الموظفين أعمالهم عن بعد، خلال عام 2020، حتى أثناء عمليات الإغلاق.
ومع ذلك، فإن إتمام المزيد من مهام العمل بعيداً عن المكاتب التقليدية يعني أن الموظفين سيشاركون ثرواتهم ومعارفهم التجارية مع مجموعة أوسع من المجتمعات، وسينتج عن ذلك توزيعاً أكثر إنصافاً للمكاسب الاقتصادية، وفقاً لأبيغيل آدامز براسل، الاقتصادية في "جامعة أكسفورد".
لكن هذا الأمر سيكون له بالمقابل بعض العواقب المؤلمة، فالمقاهي والمتاجر ومراكز تصفيف الشعر الواقعة في قلب المدينة والتي تخدم المهنيين عادة ستكون الأكثر تعرضاً لهذه العواقب. ويحسب بلوم وديفيز وباريرو، فإن التحوّل إلى العمل الجزئي من المنزل، سيضر بالإنفاق السنوي في مراكز المدن الأمريكية الرئيسية مقارنة بمستويات ما قبل الوباء، متوقعين أن تشهد مانهاتن وحدها انخفاضاً بنسبة 13%.
يقر ويلكس بأن "الكثير من الأفراد" سيتضررون من عملية التغيير، لكنه يقول، إنه على الرغم من ذلك، فإن "التغييرات التي أجبرنا عليها ستكون مفيدة بشكل عام".
ويعتقد ديفيس أن العمل الهجين سينجم عنه أيضاً مشاركة أكثر تنوعاً في القوى العاملة، ما يحد من مشكلات الإنتاجية طويلة الأمد، وذلك "من خلال الاستفادة من مهارات الأشخاص الذين لم يكونوا يعملون، أو لا يعملون كثيراً"، وهذا يشمل الأمهات والأشخاص الذين يعيشون خارج المدن الكبرى.
قال مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني إن المرونة في العمل من المنزل، قد تشجع العمال الأكبر سناً على البقاء في القوى العاملة لفترة أطول، وهو أمر يشكل أولوية للاقتصادات التي تعاني شيخوخة السكان.
ثقافة جديدة
في عام 2017، بدأت الذراع الأمريكية لشركة الاستشارات "برايس ووتر هاوس كوبرز" تعزيز بعض جوانب العمل الهجين، مثل إتاحة المرونة في مكان ووقت العمل، ومنح التدريب على تكنولوجيا العمل عن بُعد للموظفين، على حد قول مايكل فينلون، كبير موظفي الشركة.
وفي عام 2018، وجدت "جامعة جنوب كاليفورنيا" أن فرق العمل تعمل بشكل أفضل عن بعد، وتحسن مستوى البقاء في الأعمال، وقد ازداد التركيز على هذا الموضوع منذ تفشي "كوفيد-19".
يقول فينلون: "تعلمنا في فترة ما قبل الوباء أن ثقافة الثقة ضرورية لاستمرارية الصحة العامة والمرنة للأعمال، فقد كانت فرق العمل التي تبنت هذه الثقافة تفيد بوجود علاقات وتعاون أقوى، وعمل جماعي أفضل، وعلاقات أمتن مع العملاء. لقد استفدنا من الوباء وأصبحنا أكثر تصميماً ووضوحاً".
والآن، يتصارع أرباب العمل حول العالم مع هذا التحوّل، وهم يحاولون الموازنة بين نمو الإنتاجية والحفاظ على قدرة الموظفين على الإبداع والشعور بالسعادة.
أتت محاولات حل هذه المعضلة بعد 199 عاماً من معاناة تشارلز لامب معها، حيث كتب في رسالته إلى الشاعر وردزورث، في عام 1822 أيضاً: "نظرياً أريد الاستمتاع بالحياة، لكن ما أقوم به يتعارض مع ذلك"، وقد كان يأسف على الأعوام التي قضاها في المكاتب المختنقة بالدخان.
وفي الوقت الحالي، سيكتشف خلفاء لامب ومدرائهم قريباً، ما إذا كان بإمكانهم تطبيق نظرياتهم الخاصة.