تشرح كليمينسي بورتون-هيل كيف كانت منجذبة إلى تأليف كتابها الجديد بعنوان "سنة من العجب: قطعة موسيقية لكل يوم"، ولماذا يمكن أن يكون الاستماع للموسيقى عملا عميق الأثر في شفاء الروح، على حد تعبيرها.
هل يمكن لجرعة يومية من الموسيقى الكلاسيكية أن تغير حياتك؟ يبدو ذلك مجرد ادعاء من المستحيل أن يتحقق، لكن في حالتي كانت الإجابة وبشكل مقنع "نعم".
وفي العادة، يُعد شهر يناير على سبيل الجدل، الوقت المثالي للاستماع إلى الموسيقى بكل ما فيها من جمال وتنوع ثري.
نحن مخلوقات مجبولة على حب الموسيقى، هكذا كنا وسنظل. نحن أيضا مجبولون على تبادل الموسيقى، فقبل أن يقوم الفتية المتيمون بإعداد أشرطة من الأغاني المنوعة لبعضهم البعض، أو قبل أن تمكننا تقنية التسجيل الرقمية من تبادل المقاطع المفضلة، كنا نتواصل ونتصل من خلال الموسيقى.
لقد نشأنا وتطورنا كبشر بالتجمع حول النار بعد يوم صيد طويل، وكنا نردد الأغاني ونتبادل الحكايات عبر الأغنية. هذا ما فعله أسلافنا، وهكذا جعلوا العالم مكانا ملائما للعيش، وهكذا تعلموا أن يكونوا.
إنها نبض مازال جوهريا في حياتنا. لكن حياتنا المعاصرة منهكة ومفتتة بشكل غير مسبوق. فمن منا يملك متعة تخصيص وقت يومي للاستماع لقطعة موسيقية محددة؟
ربما لم نكن يوما أكثر حاجة مما نحن الآن للمساحة العاطفية التي يمكن أن توفرها لنا الموسيقى بشكل عام، والكلاسيكية منها بوجه خاص.
وتثبت الأبحاث العلمية بشكل متزايد أن ما نقوم به من أعمال للعناية بذواتنا له فوائد غير مرئية على صحتنا الذهنية، ورفاهيتنا، لكنني شخصيا لم أتمكن من ممارسة أعمال مثل اليوغا أو التأمل بشكل منتظم. ولم أذهب في حياتي إلى النادي لممارسة الرياضة، بغض النظر عن نبل مقاصدي.
تثبت الأبحاث العلمية أن الأنشطة المنتظمة التي تعرف بأنشطة "العناية بالذات"، مثل اليوغا، والاستماع إلى الموسيقى، يمكن أن تنطوي على فوائد غير معروفة على صحتنا العقلية وسعادتنا
فأنا أعيش على تناول القهوة والسكريات، ودائما أترك تعبئة أوراق عائداتي الضريبية إلى أن يحين الموعد النهائي لها. وبالتالي، فمن المحتم أن هذا الوقت من السنة الجديدة الذي تُتخذ فيه القرارات الحاسمة يجعلني أشعر بالبؤس الشديد.
ففي كل عام، أضع توقعات سنوية أفشل في تحقيقها، وبالتالي أصبح متوترة نتيجة لذلك. أنا متأكدة أنني لست الوحيدة في ذلك.
رغم ذلك، تبين أنه حتى أنا أمتلك الانضباط الذاتي لكي أسترق دقائق معدودة في كل يوم لأضع السماعات على أذني، وأستمع إلى مقطوعة موسيقية واحدة وأشعر بتغيير مزاجي ونفسيتي للأفضل.
وعلى الرغم من أنني عزفت على الناي منذ صغري، وعملت كمذيعة للموسيقى الكلاسيكية، وكاتبة متخصصة في الموسيقى لعشر سنوات، لم أتمكن من اغتنام التأثير الإعجازي للاستماع لتلك الموسيقى بشكل كامل إلا بعد جهد مضن استمر لعامين.
ويكفي أن أقول إنني لم أكن في مكان مثالي من الناحية العملية، خاصة وأنا أحاول إخفاء المتطلبات المتناقضة لوظيفة مرهقة بدوام جزئي، مع وجود طفل صغير شديد النشاط، وشعور دائم بأنني على شفا الانهيار، وذلك في وقت أرسل فيه إشارات للعالم الخارجي من حولي بأن "كل شيء على ما يرام".
ورغم ذلك، لم تأت أي من الحلول التي جربتها بأي نتيجة ما عدا الموسيقى. لقد تبين لي أنه عندما غيرت عادات الاستماع للموسيقى إلى طقوس يومية أقوم بها عن وعي، بدأت أشعر في الحال بانخفاض مستويات التوتر والقلق.
وقد أعددت لنفسي كل شهر قائمة من الأغاني الكلاسيكية، محددة مقطوعة معينة لكل يوم. فزيارة موقع يوتيوب والضغط على زر التشغيل للاستماع إلى الموسيقى، بدلا من الانهماك التلقائي في تصفح مواقع الإعلام الاجتماعي، بدا لي مريحا من الناحية الروحية.
وبدأت أتطلع لذلك بشغف شديد. واستقر في ذهني أنه إذا تمكنت من الاستفادة بطريقة ناجعة من هذه الجرعة الصغيرة والقوية من الموسيقى التي تحسن من الحالة الروحية، فإنه بإمكان الآخرين أيضا أن يفعلوا الشيء ذاته.
فماذا لو استطعت البناء على عشقي الممتد طوال حياتي للموسيقى الكلاسيكية؟ وماذا لو تمكنت من فتح هذا الكنز الكبير من الثروات الموسيقية، عن طريق تبديد الغموض الذي يكتنف الموسيقى، وإبراز الجانب الإنساني لأولئك الذين ابتكروها من خلال وضع كل قطعة موسيقية في سياقها، وسرد بعض القصص الخاصة بها، وتذكير القراء والمستمعين بأن تلك القطع الموسيقية ظهرت على يد شخص حقيقي شاطرهم القلق من ذات الأمور التي تقلقهم.
تعد الموسيقى الكلاسيكية شكلا من أشكال الفن، ولأسباب كثيرة معقدة، يُنظر إليه غالبا على أنه مقتصر على الصفوة، وكأنها حفلة لا يُدعى إليها إلا قليل من الناس. وهذا أمر مثير للسخرية إلى حد الألم، لأن الموسيقى الكلاسيكية في حد ذاتها من بين أكثر الأعمال العاطفية صدقا.
تقول كليمينسي بورتون-هيل إنها عندما غيرت عادات الاستماع للموسيقى إلى طقوس يومية، بدأت تشعر بانخفاض مستويات التوتر والقلق
وهناك سبب يكمن في اعتماد الجميع على الموسيقى الكلاسيكية، بداية من مخرجي السينما، إلى مشرفي تنظيم الجنائز، الذين يريدون إثارة المشاعر. ونظرا لكثرة هؤلاء، بدأت لا أحصي عدد الأصدقاء، وأفراد العائلة، وحتى الغرباء، الذين يطلبون مني غالبا بطريقة خجولة أن أعد لهم قائمة بأفضل الأغاني الكلاسيكية.
أحيانا، كانت تُطلب مني أشياء محددة، مثل: موسيقى تحفز على الدراسة أو العمل، أو موسيقى لتهدئة الطفل حديث الولادة، أو موسيقى تساعد على النوم، أو لإثارة إعجاب والدي شريك الحياة، أو موسيقى لممارسة الرياضة على أنغامها، أو موسيقى للاسترخاء، موسيقى تُشغّل عند التنقل بالسيارة، أو كخلفية لحفل عشاء.
وقد طلب مني مدير المقهى الذي أتردد عليه في منطقة سكني أن أعد له مقطوعة كلاسيكية لفترة الدوام المسائية. وأما ابنة أختي المراهقة، فقد طلبت مني موسيقى كلاسيكية تساعدها على الدراسة للامتحانات، وهكذا.
مسألة "من أين أبدأ" مهمة جدا. وكما هو الحال مع كل صناعة أخرى، أثرت التكنولوجيا على صناعة الموسيقى بطريقة سلبية، وأخرى إيجابية.
صحيح أن اختفاء الوسائل التقليدية لبيع وتسويق الموسيقى بشكل عام يجعل الفنانين والشركات المنتجة للموسيقى أقل حماسة مما كانوا عليه في السابق، لكن ظهور منصات إلكترونية قانونية - مثل سبوتيفاي، وأبل ميوزيك - فتح الباب أمام تلك الفئة بطريقة مثيرة للدهشة.
فالشيء الذي يتمكن كثيرون منا من الوصول إليه الآن بلمسة أصابعنا الرقمية لم يكن متخيلا قبل عشر سنوات. والآن بإمكان أي شخص متصل بالإنترنت أن يستكشف عالما من الموسيقى كان مغلقا في السابق ومقتصرا على أولئك الذين يعرفون ما يبحثون عنه، ولديهم المقدرة على دفع تكلفته.
وكل واحد لديه القدرة الذاتية على أن يخصص بضع دقائق يوميا ليستمع لمقطوعة موسيقية واحدة.
التنقل في وسائل المواصلات العامة وتشغيل الموسيقى، بدلا من الانكفاء على متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن يكون مريحا من الناحية النفسية والروحية
وقد يكون هذا الكم الهائل من الموسيقى المتوفرة الآن مجانا على الإنترنت مرهقا لكثيرين منا. لذا قررت أن أكتب دليلا إرشاديا فيه القليل من الحديث عن تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، وهو بمثابة كنز ثمين منسق يدويا للقطع الموسيقية التي أعشقها.
ويتضمن هذا الدليل الكثير من النساء اللواتي لم ينلن قدرا كافيا من الشهرة لقرون طويلة، ولمؤلفين موسيقيين من كل الأطياف، بمن فيهم المثليين والمتحولين جنسيا، وكذلك لموسيقيين لديهم إعاقات بدنية (كتب بيتهوفن معظم روائعه الموسيقية وهو أصم بالكامل)، ولموسيقيين يعانون من مشاكل كالإدمان، وضعف الحافز.
وتشمل القائمة أيضا موسيقيين ممن أبدعوا أعمالا متكاملة وهو يقومون بوظائفهم اليومية (كسائقي التاكسي، والسباكين، والصيادلة، والمزارعين، وعمال البريد)، وواصلوا طريقهم رغم العقبات، وأبدعوا تلك المقطوعات الرائعة لكي نستمتع بها.
إنني أؤمن بأن الأعمال الموسيقية العظيمة هي محركات للعاطفة والتفاعل الإيجابي، إذ تتيح لنا أن نسافر بدون الانتقال إلى أزمنة أو أماكن أخرى.
وهي أيضا تعطينا قوة تمكننا من استخدامها بما يتناسب مع حياتنا الحقيقية. لذلك لا تفكر كثيرا فيما إذا كنت تمتلك المؤهلات المناسبة لتصبح من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، أو أنك تستمع بطريقة صحيحة، وثق بأن كل ما تحتاجه فقط هو أن يكون لديك أذنين.
إن بإمكانك الاستماع للموسيقى وأنت في طريقك مسافرا أو منتنقلا من مكان لآخر في وسيلة مواصلات، ويمكنك أن تأخذ الموسيقى معك عندما تذهب للنزهة، وأن تستمع إليها في الخلفية وأنت تُعد إفطار أطفالك، أو تمارس رياضة الصباح المدرسية، أو تحضر العشاء، أو عندما تمدد رجليك مسترخيا، أو عندما تغسل ثيابك وتكويها، أو عندما تقرأ الإيميل الخاص بك.
أعتقد أنه لا يوجد شيء في الحياة لا يمكن لهذه الموسيقى أن تضفي عليه لمسة جميلة وساحرة. فهذه الموسيقى تستحق أن يعيش المرء ليستمتع بها، ويعيش بها أفضل حياة.
نقلا عن البي بي سي