يبدو أن تعقيدات النظام العالمي بحسب مخاضاته الراهنة لضبط موازينه الجديدة ستزداد صعوبة وتشابكاً، بحسب تقديرات المختصين في الشأن الدولي، الذين تتأرجح تحليلاتهم مع تأرجح الرهانات التي تخوضها قوى العالم على معسكريه -الشرقي والغربي- لإعادة ترتيب أوراقها وتسوية حساباتها، وبدخول صراعات لم تعد تحتملها منظومة بناء العالم "المتحضر" قياساً بما بذلته البشرية من جهود، وما قدمته من تضحيات على طريق ترسيخ أركان الاستقرار الدولي وإرساء السلام، حيث ينضم الجميع -نظرياً- لأسرة واحدة قطعت حتى وقتنا الحاضر مئات العهود لإنهاء الصراعات من أجل التنمية الموعودة وحفظ ما تبقى من الكرامة الإنسانية.
المحزن في سياق ما تقدم هو سرعة تجاوز اللاعبين الأساسيين على المسرح الدولي ما خلفته الجائحة الفيروسية من آثار وأضرار عمَقت الفجوات بين مجتمعات العالم وحولت اقتصاده إلى "اقتصاد حرب" لا "اقتصاد سلام"، وانشغال القرية الكونية بأسرها بأزمة جديدة تزيد من حدة الوضع الراهن وترفع من درجة التأهب لوقف النزف الاقتصادي وتفادي شبح الجوع والدمار الشامل وتعويض الخسائر البشرية والتركيز فقط على كيفية ترسيم الخرائط الجديدة.. واقعياً وافتراضياً.
والشاهد للعيان، فإن هذا الوضع القاتم لا يحتمل أن تتم معالجته فقط من على منصات التنظير التي ترعاها قوى المال والاقتصاد، التي يبدو أنها باتت أكثر تأثراً بالخصومات السياسية، كما يحدث بشكل مبالغ به في عالم الرياضة، وكما تفعل العديد من المراكز البحثية والوسائل الإعلامية كشاهد عيان على الأحداث العالمية ولا يرى إلا بعين واحدة.
إلا إنه من أحد تلك المنصات الفكرية، وبطرح خرج عن نمط الطروحات الغربية التي اعتدنا سماعها تجاه الحرب الروسية - الأوكرانية، قدم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية وعرابها "الأسبق"، مقاربة جريئة تجاه إنهاء الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، بمقايضة جزء من أرض الأخيرة مقابل إنهاء الحرب، وهو المعروف بولائه الشديد لسياسات بلده في خطوطها العامة، وليس في تصوره البعيد أو القريب، أن تتنازل بلاده عن دورها في نشر ديمقراطيتها لمحاربة الديكتاتورية والاستبداد، ولكنه ينصحها بالتخفيف من حدة اندفاعها في لعب هذا الدور، الذي لم تثبت جدواه حتى يومنا هذا.
ولم يكتف بذلك، بل أثار نقطة في غاية الأهمية، بالابتعاد عن تحجيم وإرضاخ روسيا، فثعلب السياسة الخارجية الأمريكية ومهندسها القديم، يعي تبعات ذلك على مستقبل استقرار أوروبا، بل العالم أجمع، مطالباً روسيا في المقابل بأن تستوعب دروس الحرب وتعيد النظر في عمق علاقاتها مع محيطها، وهو خطاب يتفهم تاريخ روسيا ومكانتها كحضارة وقوة تواجه الغرب بندية، وبطول نفس إستراتيجي، وبفهم عميق للحساسية الغربية تجاه هذا المكون الشرقي الذي لا يبدو أنه يقبل بالانهزام.
الثابت فيما صرح به كيسنجر، أنه طرح منسجم مع فكر هذا المسؤول الذي عاصر تحولات العالم الحديث وكان شاهداً عليها بحكم مناصبه وما نفذ من سياسات ساهم في رسمها، وقد نتفق معها أو نختلف؛ فهو صاحب النظرية الأشهر في طبيعة العلاقات الدولية، التي على أساسها اعترفت أمريكا بالصين ووافقت على إدخالها الأمم المتحدة، ومنها نشأ الوفاق والتعاون بين القوتين العظميين في ذلك الحين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وما نتج عن ذلك من تسويات وبعض الانفراجات لأزمات مستعصية، كحرب فيتنام والخلاف بين الكوريتين والعداء بين الألمانيتين والأمن الأوروبي، هذا غير استحداثه منطق "التعددية السياسية الخماسية"، التي تشمل القوتين العظميين، إلى جانب الصين واليابان وأوروبا المتحدة، فاتحاً الباب أمام أي كتلة عالمية جديدة بشكل لا يربك ميزان المصالح والتحالفات المشتركة، لكن بشرط أن تتقن تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي وتبتعد عن الترهيب السياسي والعسكري الذي كان العنوان الأبرز لفترة الحرب الباردة.
ووقوفاً أمام هذه المبادئ العامة للمعادلة الدولية التي تبدو في ظاهرها عقلانية ومتأنية ومنصفة وتسعى لاستقرار موازين القوى بما تحمله في باطنها من مفاتيح لا يملكها إلا من احترف لعبة القوة العظيمة، يتردد على الذهن العديد من الأسئلة التي تهمنا كمنطقة، وتحديداً في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم، لكونها تتأثر بشكل جذري ودقيق برياح التغيير التي تهب عليها من كل حدب، وعلى قواها الفاعلة أن تستثمر المشهد المتبدل في ظل المتغير من المواقف الدولية، وهو ما يتنبه له متتبعو الإشارات الصادرة عن المنطقة، بوجود مراجعات واقعية وإعادة نظر جدية تقيّم علاقات دول المنطقة مع العديد من الدول المؤثرة، كمساهمين أساسيين في تحديد مستقبل الوضع الدولي وتغيير موازينه لصالحها أولاً وأخيراً.
ومع هذا الوضع العالمي المتسارع في تغيير مواقفه وقناعاته، آن أوان أن تواصل دول المنطقة في حماسها الملحوظ للتحول إلى قوة فاعلة في ضبط موازين التشبيك مع قوى العالم الجديد، وضمن مسار متوازن يأخذ في الاعتبار حبكة التوافقات التي تجعل مما يسمى بالتعددية السياسية على المستوى العالمي واقعاً مفروضاً، وهو أمر يستوجب أن تتحرر المنطقة من كل ما يعيق تحولها إلى صوت مسموع بمكانة مؤثرة تعيد ترتيبات المشهد الدولي، بما يستدعيه ذلك من الانضمام إلى أو تشكيل تكتلات مدروسة تنقلها إلى مستويات أعلى وأقوى على صعيد علاقاتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والأمنية، وتتجاوز، من خلالها، أي ترسبات تعيق تجدد تطورنا البشري والحضاري بامتلاك كل ما يلزمنا من أسلحة معرفية وفكرية، وتحصين ثقافي، وتصنيع دفاعي وإنتاج تنموي، بتقارب إستراتيجي متجدد يكثّف من المصالح المشروعة والمتبادلة بيننا وبين من يحالفنا، لنأخذ بحضارتهم بيد ونقاوم أطماعهم باليد الأخرى.
*عضو مؤسس دارة الأنصاري للفكر والثقافة - نقلاً عن صحيفة "البيان" الإماراتية