كان أول لقاء صدفة. الصدفة لم تكن عادية. حين رأيته لم أتكلم معه، مع ذلك تملكني شعور بأني أعرف الرجل من زمن طويل، لذلك بتُّ متلهفاً أن أعرف من هو الرجل لعلي بذلك أنقذ ذاكرتي من تعب يتملكها لو بقيت أحاول أن أتوغل في الماضي كي أستعيد كل الوجوه الكريمة التي رأيتها. حين سألت صاحبي بما يشبه الهمس عنه قال لي كيف لا تعرفه إنه الأمين العام لمجلس التعليم العالي إنه البروفيسور رياض حمزة.
وهكذا أدركت أن الأشخاص الذين كتب الله لهم أن يكونوا محوراً حوله تتجمع عناصر الخير في المجتمع كي يدور بها في حركة دائرية من الجهود النادرة نحو الأمام لهم جاذبية تفقأ عين النسيان. وتقترب منهم النفوس حتى كأنها تأتلف دون لقاء أو تعانق فيهم هيبة الصمت إحساس المودة دون حاجة إلى كلام.
خرج الرجل من المجلس دون أن أتكلم معه ولم أتلقَّ منه سوى تحية هي تحية قدمت لكل من كان في المجلس. ظلت صورة الرجل في ذهني وبتُّ أتابعه بل قل أقرأ عنه، فتبيّن لي أنه واحد من العلماء الذين يعملون بصمت في تواضع، والنجاح عندهم ليس ما يعكس إنجازهم من فائدة شخصية وإنما يقاس النجاح عندهم بما يستفيد المجتمع من جهودهم وبالقدر الذي أشعلوا به جذوة تحملها الأجيال من بعدهم.
ولم يمضِ وقت طويل على رؤيته الأولى حتى قُدِّر أن ألتقي به ثانية، وكان ذلك حين عُيِّن في منصب رئيس جامعة البحرين. أرسل ورائي وحضرت إلى مكتبه. عاودني الشعور ذاته بأني أعرف الرجل وهذه المرة لم أُخطئ التفسير، فالرجل من العلماء الذين لهم حضور لا يحتاج إلى سابق معرفة فهم يتركون الباب بينهم وبين الطموحين مفتوحاً لتسود لغة القلب قبل لغة اللسان. حدثني مباشرة بأنه يبحث عمن يساعده في البناء على ما تم وضعه من أسس علميه لترقى الجامعة إلى المكان الذي تكون فيه مصنعاً للطاقات العلمية المبدعة ليس على المستوى المحلي وإنما على المستوى العالمي في آن واحد. أخبرته أن لديه طاقة لا تدع لمن يجلس أمامه من سبيل سوى أن يستجيب لمتطلبات التطور العلمي مهما كلف ذلك من جهد. وكنت صادقاً تماماً حين قلت له أني كنت أفكر في التقاعد لكن بعد الاستماع لحديثه بت أشعر أن لدي ما لم أظنه موجوداً وأن مسيرة العطاء لا يمكن أن تتوقف في عمر مبكر.
وهكذا قُدِّر لي أن أعمل مع رجل اسمه رياض حمزة. يبدأ من وقت مبكر دون كلل في العمل الدؤوب حتى المساء، وأحياناً يُخيّل لي أنه لا يغادر المكتب حتى الصباح الذي نلتقي فيه مجدداً. يعجز من حوله إلى حد جعل بيت المتنبي يدور في رأسي مثل ضوء الفانوس (ويطلب عند الناس ما عند نفسه، وذلك ما لا تدعيه الضراغم). أحياناً يخالجني إحساس غريب بأنه أكثر من رجل واحد فهو يتابع كل شيء بحماس، يتابع الباحثين ويكرمهم في مهرجانات علمية رصينة، يتابع ويحضر جميع الندوات العلمية. يتابع العملية التعلمية برمتها، يطبق القانون بكل ما اشتمل عليه من تشريع ولوائح وعرف، يستمر في كتابة بحوثه العلمية دون أن تنال الإدارة من إرادته في المساهمة في التطور العملي. لا يفتأ يستقبل الوفود من الجامعات الرصينة ويبرم مذكرات تفاهم تنصبّ في خدمة الباحثين، يحافظ بمعيار رب الأسرة الحريص على حقوق الأكاديميين والموظفين ويسأل نفسه كل يوم عمّا حمله هذا اليوم من إنجاز. ومع ذلك أجد لديه متسعاً من الوقت فأُسمعه ما أكتب من شعر ليتأمل ما أقول ثم يجادلني فيه مجادلة الناقد المتخصّص.
وحين تقاعدت بحكم العمر لم يكن باستطاعتي أن أنسى البروفيسور رياض لأن الإبداع عنده ضوء لا ينطفئ ولا يمكن أن أستمر في البحث عن معنى دون ذلك الضوء. لا يمكن أن يتحول الوقت معه إلى ماضٍ وإن كان جزءاً من حساب الزمن لأنه تحول إلى منهج حياة بقيت من خلاله أتمنى أن أقدم إنجازاً. تعلمت كيف أسعى إليه من خلال ذلك المنهج. لذلك ليس غريباً عندما تقاعد البروفيسور رياض أن يطوف الشعر في قلبي لينطق لساني بالقول:
لملمت أوراق عمري في خزائنه
مفتاحها ضاع واستعصت على الكسر
نعم أنا فخور أني عرفت الرجل وأن ما تركه فينا من روح العمل هو أمر لا يتحول إلى ذكرى ما دمنا نؤمن بالعطاء منهجاً للزمن مهما امتد بنا العمر ومهما اشتكى الجسد، لأن العطاء عندنا هو الحياة.
ألف تحية حب لمقامكم بروفيسور رياض.