الحروب هي أسوأ الحالات التي يتعرّض لها البشر، بل كل كائن حي أو غير حي على وجه الأرض، والحرب حالة من الانتهاك الغاشم لحرمة الدماء وهدم للبنيان المقدّس للنفس.
والمتأمل في النهج الرباني لدستور الحياة يدرك بجلاء أن الحرب حالة طارئة تفرضها ظروف استثنائية وأن القتال أمرُ اضطراري دعت إليه حاجة ملحّة وألجأت إليه ضرورة كبرى، وفي نهج الإسلام بصفة خاصة نرى أن الحرب خروج عن الأصل واستثناء من القاعدة ونرى القتال من المحظورات التي لا تحلّ إلا اضطراراً ولا يجوز إلا إلجاء، وأن قرار القتال دون ذلك يُعدُّ عدواناً محرّماً وانتهاكاً صارخاً لحقّ النفس في الحياة؛ لذلك عبّر الله تعالى عن حالة الحرب في تشريع القتال بقوله «أُذِنَ» أي صار مأذوناً فيه بعد أن كان محظوراً وأصبح مباحاً إباحة مؤقتة لأسباب بعينها إذا زالت زال حكم الإباحة وعاد الحكم لأصله بالحظر، والإذن بالقتال وفكّ الحظر عن ممارسته دليل على حرمته قبل الإذن وأنه لا يحوز الإقدام عليه إلا في حالات محدّدة ووفق ضوابط خاصة، ولا أدل على ذلك من أن المسلمين قد عاشوا قرابة عقد ونصف من الزمان بين أظهر أعدائهم في مكة يتعرّضون للتنكيل والقتل والعدوان ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم والوحي يتنزّل عليه ولم يؤذن لهم حتى بالدفاع عن أنفسهم بحرب أو قتال، حتى جاء وقت الشدّة وحان الاستثناء اضطراراً، فورد الأمر بإباحته مقروناً بمبررات واضحة قال تعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ».
وعلى كل منصف يريد أن يتحدث عن الحرب والقتال في الإسلام أن يعلم ويبيّن أن كل آيات الأمر بالقتال التي وردت في القرآن الكريم إنما جاءت بعد هذه الآية وليس قبلها، تأسيساً عليها غير منفصلة عنها، وأن الحديث عن آيات الحرب والقتال دون التأسيس على ما في هذه الآية من أحكام يُعدّ ظلماً للإسلام وتجنّياً على شريعته الغرّاء وأن شبهات الدموية والعنف والإرهاب التي أثيرت حول الإسلام والمسلمين قامت على أساس تجاهل أحكام هذه الآية وتعمّد تغييب الوعي بمبادئها، ولأن الحرب دمار وخراب وانتهاك لحقّ النفس في الحياة فإن تشريعها مرهون بتحقيقها لتلك الغايات، فهي إما أن تكون حماية لمبدأ الحق في الحياة أو دفعاً لمسببات سلب ذلك الحق، أو طلباً لتحقيق أمن الأنفس والأرواح وحقن الدماء ونشر السلم وتحقيق العدل والسلام، ومن حاول تصنيف الحرب في غير هذا الإطار فقد تعمّد تشويه دستور الخالق لخلقه واتهم الشرائع السماوية بالدموية والعدوان، وما إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين إلا نتيجة لتعمّد تشويه صورة الإسلام والمسلمين أو لجهل بعض المسلمين بدستورهم وأحكام شريعتهم، وهذا كتاب الله بين أيدينا محفوظ من الله وقد أودع الله بين دفّتيه من الآيات الدالة على حرمة الدماء وتجريم إزهاق الأرواح وفرضية حماية النفس وكفالة حياتها وأمنها، وهذه حياة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم صفحات مضيئة بالرحمة والرأفة والرغبة الصادقة والعمل الجاد لإيجاد مجتمع إنساني تسوده الألفة والمودة والتعارف والتآلف، وهذا تاريخ المسلمين شاهد على منهج الإسلام الراسخ في كراهية الحرب والقتال وحُبِّ السِّلم والسلام، قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».