تكرس روسيا من هيمنتها ونفوذها في المنطقة شيئاً فشيئاً، ساحبة البساط من تحت أقدام أمريكا، التي قبلت سواء عن طيب خاطر، أو رغماً عنها، بتضاؤل دورها، خاصة فيما يتعلق بقضايا عربية ودولية رئيسة، لعل أبرزها الملف السوري. وأضحت موسكو لاعباً رئيساً ومركزياً وأساسياً في المنطقة العربية والعالم، واستطاعت أن تتحول تدريجياً بالهيمنة والنفوذ، من منطق الحليف والداعم، إلى نهج استراتيجية الوسيط، والراعي، والعراب، لمباحثات واتفاقيات دولية تقود إلى حلول لأزمات كبيرة، لا تخلو من براغماتية روسية مستغلة الغياب الأمريكي التام.
في الملف السوري، مثل إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قيصر الكرملين" في 29 ديسمبر الماضي عن وقف لإطلاق النار في سوريا مع الدعوة إلى مفاوضات أستانة في كازاخستان الإثنين المقبل تكريساً لهيمنة موسكو على الملف السوري، في غياب واضح لدور واشنطن لأول مرة منذ بداية النزاع قبل نحو 6 سنوات، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى حد أن توجه موسكو الدعوة إلى إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للمشاركة في المحادثات في تجاهل لرغبة طهران التي طلبت عدم دعوة واشنطن للمباحثات.
ولاشك في أن دعم إيران وميليشيات "حزب الله" اللبناني، وميليشيات "الحشد الشعبي" العراقية لنظام الرئيس بشار الأسد خاصة في معارك حلب لعب دوراً كبيراً في حسم المعارك، لكن كل جهود إيران وحلفائها من الميليشيات الشيعية ما كانت لتأتي أكلها لولا التدخل العسكري الروسي المباشر لصالح النظام السوري، وهو ما عزته صحيفة "ناشونال إنترست" الأمريكية إلى القوة الروسية الجوية التي لعب دوراً استراتيجياً في تمكين قوات الأسد وميليشياته من استعادة حلب الشرقية. ولهذا ذهبت الصحيفة إلى أن التحالف بين روسيا وإيران في الشرق الأوسط يبدو هشاً لافتة إلى أن طهران ستبقى تحت رحمة موسكو خاصة في حال تحسن العلاقات بين الكرملين وإدارة ترامب، مع الأخذ في الاعتبار أن القاسم المشترك في العلاقات بين طهران وموسكو قبل عقود مضت، كان مبنياً على أساس الكراهية المتبادلة تجاه النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهو الأمر الذي ربما يتغير في المستقبل مع إدارة ترامب ويصب في صالح موسكو.
وتبدو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منطقية إلى حد بعيد عندما أكد أن دمشق كانت على وشك السقوط في أيدي المسلحين خلال أسبوعين، لولا تدخل روسيا لصالح نظام الأسد.
وبشأن العلاقات مع تركيا، تكشفت البراغماتية الروسية في تعاملها مع أكثر من قضية، خاصة حادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا، حينما سارعت موسكو إلى التأكيد على أن عملية الاغتيال لن تؤثر على علاقات البلدين، بل على العكس قد تعززها. والمفاجئ في الأمر أن الاتفاق على محادثات أستانة جاء غداة عملية الاغتيال، رغم أنه منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، والعلاقات بين البلدين تتعرض بين فترة وأخرى لهزات عنيفة بلغت ذروتها مع إسقاط تركيا لمقاتلة روسية على الحدود مع سوريا في نوفمبر 2015، وهو الأمر الذي عالجته تركيا فيما بعد بتقديم اعتذار لروسيا، وقد قبلته الأخيرة. وأمس، أعلنت موسكو أن الطيران الروسي والتركي نفذا لأول مرة في سوريا ضربات مشتركة ضد مواقع لتنظيم الدولة "داعش" في مدينة الباب شمال البلاد.
وفيما يتعلق بالملف الفلسطيني، فقد رعت الخارجية الروسية اجتماعات فلسطينية استمرت أياماً، أعلنت بعدها الفصائل الفلسطينية الرئيسة أنها توصلت إلى اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل تنظيم الانتخابات. وقبل ذلك، التقى ممثلو الفصائل الفلسطينية وزير الخارجية الروسي وطلبوا منه بذل كل ما بوسعه لمنع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، بناء على وعد من الرئيس ترامب. وفي هذا الصدد تسعى موسكو من خلال تبنيها للملف الفلسطيني إلى لعب دور أكبر بعيداً عن فشل اللجنة الرباعية التي تضم في عضويتها إلى جانب روسيا، أيضاً، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأمريكا، وهو الأمر الذي دفع مسؤولون في "حماس" و"فتح" إلى اعتبار أن اللجنة الرباعية فشلت في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ومن هنا لابد من البحث عن أوراق جديدة للتعامل مع الكيان الصهيوني، ولذلك كان التعويل الفلسطيني على دور أكبر لروسيا داخل اللجنة بعدما هيمنت عليها واشنطن لفترات طويلة، تبين من خلاله الفشل الذريع الذي لحق بـ "الرباعية".
ولا يخفى الدور الروسي في ليبيا الغنية بموارد النفط والغاز، حيث تحاول توسيع نفوذها في البلاد، وهذا ما يجعل قائد الجيش الليبي شرق البلاد المشير خليفة حفتر يسعى بشكل كبير للحصول على دعم موسكو، فيما بدا التقارب بينه وبين وروسيا جلياً خلال زيارة قام بها لحاملة الطائرات الروسية أميرال كوزنتسوف مؤخراً، والتقى خلالها ضباطاً روسيين وبحث في اتصال بالفيديو مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط.
وقد زار حفتر موسكو مرتين العام الماضي، حيث طلب مساعدة روسيا لرفع حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا منذ عام 2011. ولا شك في أن روسيا سيكون لها دور أساس في مستقبل ليبيا خلال المرحلة المقبلة الأمر الذي يوسع قاعدة تواجدها على البحر المتوسط مع إيجاد موطئ قدم لها في الشرق الليبي إضافة إلى قاعدتها البحرية في طرطوس على الساحل السوري، فضلاً عن قاعدة حميميم الجوية جنوب شرق اللاذقية. ولا يمكن تجاهل الدور الروسي خلال المفاوضات مع الدول المصدرة للنفط "أوبك" في اتفاق خفض الإنتاج، فقد قلصت موسكو إنتاجها اليومي التزاماً منها بالاتفاق الذي أبرم في فيينا وأعلنت موافقتها على تخفيض إنتاجها، بمعدل 300 ألف برميل من النفط يومياً، لإنجاح الاتفاق.
* وقفة:
لا يمكن تجاهل هيمنة "روسيا القيصر" على ملفات رئيسة إقليمية ودولية في غياب واضح لواشنطن، وتحول موسكو لوسيط وعراب الأمر الذي يتطلب معه إعادة تقييم للعلاقات الخليجية الروسية على أسس براغماتية بحتة.
{{ article.visit_count }}
في الملف السوري، مثل إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قيصر الكرملين" في 29 ديسمبر الماضي عن وقف لإطلاق النار في سوريا مع الدعوة إلى مفاوضات أستانة في كازاخستان الإثنين المقبل تكريساً لهيمنة موسكو على الملف السوري، في غياب واضح لدور واشنطن لأول مرة منذ بداية النزاع قبل نحو 6 سنوات، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى حد أن توجه موسكو الدعوة إلى إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للمشاركة في المحادثات في تجاهل لرغبة طهران التي طلبت عدم دعوة واشنطن للمباحثات.
ولاشك في أن دعم إيران وميليشيات "حزب الله" اللبناني، وميليشيات "الحشد الشعبي" العراقية لنظام الرئيس بشار الأسد خاصة في معارك حلب لعب دوراً كبيراً في حسم المعارك، لكن كل جهود إيران وحلفائها من الميليشيات الشيعية ما كانت لتأتي أكلها لولا التدخل العسكري الروسي المباشر لصالح النظام السوري، وهو ما عزته صحيفة "ناشونال إنترست" الأمريكية إلى القوة الروسية الجوية التي لعب دوراً استراتيجياً في تمكين قوات الأسد وميليشياته من استعادة حلب الشرقية. ولهذا ذهبت الصحيفة إلى أن التحالف بين روسيا وإيران في الشرق الأوسط يبدو هشاً لافتة إلى أن طهران ستبقى تحت رحمة موسكو خاصة في حال تحسن العلاقات بين الكرملين وإدارة ترامب، مع الأخذ في الاعتبار أن القاسم المشترك في العلاقات بين طهران وموسكو قبل عقود مضت، كان مبنياً على أساس الكراهية المتبادلة تجاه النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهو الأمر الذي ربما يتغير في المستقبل مع إدارة ترامب ويصب في صالح موسكو.
وتبدو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منطقية إلى حد بعيد عندما أكد أن دمشق كانت على وشك السقوط في أيدي المسلحين خلال أسبوعين، لولا تدخل روسيا لصالح نظام الأسد.
وبشأن العلاقات مع تركيا، تكشفت البراغماتية الروسية في تعاملها مع أكثر من قضية، خاصة حادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا، حينما سارعت موسكو إلى التأكيد على أن عملية الاغتيال لن تؤثر على علاقات البلدين، بل على العكس قد تعززها. والمفاجئ في الأمر أن الاتفاق على محادثات أستانة جاء غداة عملية الاغتيال، رغم أنه منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، والعلاقات بين البلدين تتعرض بين فترة وأخرى لهزات عنيفة بلغت ذروتها مع إسقاط تركيا لمقاتلة روسية على الحدود مع سوريا في نوفمبر 2015، وهو الأمر الذي عالجته تركيا فيما بعد بتقديم اعتذار لروسيا، وقد قبلته الأخيرة. وأمس، أعلنت موسكو أن الطيران الروسي والتركي نفذا لأول مرة في سوريا ضربات مشتركة ضد مواقع لتنظيم الدولة "داعش" في مدينة الباب شمال البلاد.
وفيما يتعلق بالملف الفلسطيني، فقد رعت الخارجية الروسية اجتماعات فلسطينية استمرت أياماً، أعلنت بعدها الفصائل الفلسطينية الرئيسة أنها توصلت إلى اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية قبل تنظيم الانتخابات. وقبل ذلك، التقى ممثلو الفصائل الفلسطينية وزير الخارجية الروسي وطلبوا منه بذل كل ما بوسعه لمنع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، بناء على وعد من الرئيس ترامب. وفي هذا الصدد تسعى موسكو من خلال تبنيها للملف الفلسطيني إلى لعب دور أكبر بعيداً عن فشل اللجنة الرباعية التي تضم في عضويتها إلى جانب روسيا، أيضاً، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأمريكا، وهو الأمر الذي دفع مسؤولون في "حماس" و"فتح" إلى اعتبار أن اللجنة الرباعية فشلت في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ومن هنا لابد من البحث عن أوراق جديدة للتعامل مع الكيان الصهيوني، ولذلك كان التعويل الفلسطيني على دور أكبر لروسيا داخل اللجنة بعدما هيمنت عليها واشنطن لفترات طويلة، تبين من خلاله الفشل الذريع الذي لحق بـ "الرباعية".
ولا يخفى الدور الروسي في ليبيا الغنية بموارد النفط والغاز، حيث تحاول توسيع نفوذها في البلاد، وهذا ما يجعل قائد الجيش الليبي شرق البلاد المشير خليفة حفتر يسعى بشكل كبير للحصول على دعم موسكو، فيما بدا التقارب بينه وبين وروسيا جلياً خلال زيارة قام بها لحاملة الطائرات الروسية أميرال كوزنتسوف مؤخراً، والتقى خلالها ضباطاً روسيين وبحث في اتصال بالفيديو مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط.
وقد زار حفتر موسكو مرتين العام الماضي، حيث طلب مساعدة روسيا لرفع حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا منذ عام 2011. ولا شك في أن روسيا سيكون لها دور أساس في مستقبل ليبيا خلال المرحلة المقبلة الأمر الذي يوسع قاعدة تواجدها على البحر المتوسط مع إيجاد موطئ قدم لها في الشرق الليبي إضافة إلى قاعدتها البحرية في طرطوس على الساحل السوري، فضلاً عن قاعدة حميميم الجوية جنوب شرق اللاذقية. ولا يمكن تجاهل الدور الروسي خلال المفاوضات مع الدول المصدرة للنفط "أوبك" في اتفاق خفض الإنتاج، فقد قلصت موسكو إنتاجها اليومي التزاماً منها بالاتفاق الذي أبرم في فيينا وأعلنت موافقتها على تخفيض إنتاجها، بمعدل 300 ألف برميل من النفط يومياً، لإنجاح الاتفاق.
* وقفة:
لا يمكن تجاهل هيمنة "روسيا القيصر" على ملفات رئيسة إقليمية ودولية في غياب واضح لواشنطن، وتحول موسكو لوسيط وعراب الأمر الذي يتطلب معه إعادة تقييم للعلاقات الخليجية الروسية على أسس براغماتية بحتة.