مع انقشاع ضباب الانتخابات الأمريكية بالإعلان عن سيد البيت الأبيض القادم من معركة طويلة بمطباتها العديدة، التي لم تمنعه من الوصول، مرة أخرى، إلى كرسي الرئاسة. والحقيقة، لا أذكر رئيساً أمريكياً يمتلك نفساً طويلاً أو «صبراً استراتيجياً» كالذي يتحلى به الرئيس ترامب في مواجهة خصومه الكثيرين.

أقول مع انقشاع الضباب ووضوح الرؤية في العاصمة د. سي. تبدأ مرحلة جديدة من «قراءة طالع» السياسة الأمريكية الخارجية، التي نرجو لها التوفيق، لاسيما تجاه إسرائيل، التي تنحرف بوصلتها بعيداً عن أي سلام نحلم فيه للمنطقة، وبإصرار واضح للتخلص من حل الدولتين!

فإسرائيل تعمل جاهدة لسحب قشة النجاة الوحيدة للحفاظ على ما تبقى من سيادة أو شرعية للدولة الفلسطينية، وتخطط، بكل ما أوتيت من قوة، لحجب حل الدولتين، المتفق عليه دولياً، عن أفق الحلول السياسية السلمية، وهو تصعيد خطير في وجه الشرعية الدولية، ويعتبر قراراتها منتهية الصلاحية.

ولكيلا أُفهم خطأ، فأنا لست من المبشرين بهذا السيناريو الفاشي، الذي يُطبخ على نار مستعرة، في ظل انشغال المنطقة بقواعد فك الارتباط بين الأطراف المتحاربة، بل أتطلع، مع الغَيَارَى على قضيتهم القومية، إلى الخروج من دوامة حوار الطرشان بين أطراف النزاع، وفقدان أرضية التفاهمات المشتركة والتحالفات القوية التي تؤدي إلى جلوس أطراف النزاع على ذات الطاولة، وللوصول إلى ذات الهدف.

ومع هذا الفرض لسياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، فإن المسار الوحيد الذي يجب خوضه في هذه المرحلة الصعبة من عمر «صراع القرن»، هو أن نبدأ بتسمية الأشياء بمسمياتها الواضحة، وأن نُعيد النظر في سُبل التفاوض بالتعامل، بأقصى درجات الواقعية، مع المنظور الإسرائيلي المتشبّث بحتمية الدولة اليهودية الواحدة، وإطالة أمد الحرب لتقليص فرص العودة لحل الدولتين.

ودليلنا على ذلك، المزاج السياسي المتطرّف، في الداخل الإسرائيلي، الرافض والكاره للوجود الفلسطيني، والمتمسّك بسياسة «حرق الأراضي» في اجتياحاته العسكرية، المستمرة حتى اللحظة، وجميع تلك المواقف تؤكد على أن اليوم التالي لحرب غزة سيجعلنا في مواجهة إسرائيل أكثر رعونة، وأكثر صرامة، وأقل إنصات لمطالبات السلام الشامل، وإليكم بعض من تلك الأسباب:- سيطرة القوات الإسرائيلية على قطاع غزة بأكمله وتحويله إلى منطقة منزوعة الروح والسيادة.

- استبعاد الحكومة الإسرائيلية الحالية لفكرة الإدارة المدنية الفلسطينية للقطاع، وإن رغبت في ذلك، فشروطها لن تنطبق على أي تنظيم فلسطيني شرعي، ليبقى الحال كما هو، دون تعمير ودون عودة لسكان القطاع.

- الاستنفار في تنفيذ خطط استيطانية متسارعة في الضفة الغربية، وإعادة التفكير بعودة بعضها لقطاع غزة.

- إعادة تنشيط سيناريو منح الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين على غرار ما طُبّق ما بعد نكبة 1948 وظهور ما سُمّي لاحقاً بـ«عرب إسرائيل»، ويقال بأن من سيرفض التجنيس سيُرحّل أو يُقتل، وهو أمر غير مستغرب!وجميع ما تقدّم يشير إلى حجب التكتل اليميني المتطرّف في الحكومة الحالية لأفق السلام في المنطقة، ويؤكد مجدّداً على عدم قدرة إسرائيل من التعايش السلمي مع جوارها، واستسلامها لهوس العقلية الصهيونية المتطرّفة بتحقيق النصر الساحق مهما كانت الخسائر.

ونعتقد بأن هذا المنطق العقيم والمتشدّد سيكون سيد الموقف على طاولات المفاوضين المخفية قبل المعلنة، لنعود ونسأل العقلاء عن خططهم لكبح جماح هذا التهوّر الأرعن، والمستمر في اتّباع سياسة قطف الكرز المتعجّلة، والمنحازة، والجشعة في عالم يُفترض بأنه تخلّص من أطماعه الاستعمارية، بل بدأ يعود معتذراً عن أخطائها الكارثية، خصوصاً عندما تنطق بذلك سجلاّت التاريخ السرية.

فهل من أوراق تفاوضية جديدة لإنقاذ مصير شعب بأكمله، قَبِلَ -على مضض- دولة كيانه المحتل، وتعايش مع قاعدة «ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله»، وقدّم من التضحيات ما تدمي له القلوب؟

فلقد جُرّبت معاهدات السلام.. وجُمّدت!

وصدرت عشرات القرارات.. وحُفظت!

ولم تحقّق، لا الحروب ولا الانتفاضات، أي نتيجة تُذكر!

فهل نأكل الكرز المقطوف؟ أم ننتظر الصبح لعل صفقة جديدة تقترب من الأبواب المُقفلة؟

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة