تجمّدتُ مكاني عندما وصلني خبر وفاة أخي الكبير الإعلامي القدوة، عَطِر السيرة، جميل العشرة الدكتور يوسف محمد الذي وافته المنية صباح يوم الخميس، فبينما كنت أنتظر خبر تحسّن حالته ونقله للجناح فُجعنا بخبر رحيله ومغادرته هذه الدنيا، وكأنه زائر خفيف حلّ علينا وبيننا، ورحل بخفّة ولُطف كحضوره. هكذا هم الطيبون دائماً يرحلون دون وداع، دون استئذان، ودون أن يعطونا مجالاً لأن نعتاد الحياة دونهم، فاللهم لا اعتراض، وإنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنّا على فراقك يا «بومحمد» لمحزونون.
عادت بي الذاكرة وكأنها شريطٌ كلاسيكي لأول لقاء معه، عندما كنت في الرابعة عشرة في مواقف الاستاد الوطني برفقة أخيه الأصغر «إسماعيل» بانتظار دخولنا لإحدى حفلات العيد الوطني، وعندما رأيته وهو المشهور وذاكرتنا مرتبطة به وبصوته ومقابلاته وأغانيه، سلمنا عليه وسألني العديد من الأسئلة، ليحمّلني أمانة إيصال سلامه لكل من عرفه من أهلي.
مرّت الأيام وصُدم برؤيتي في مكتب العم العزيز علي الشرقاوي في بدايات تأسيس صحيفة «الوطن»، حيث كان يعمل معهم في إصدار عدد من الملاحق المتعلّقة بالتاريخ والتراث الثقافي، وهنا عندها بدأ بتشجيعي بشكل دائم كعادته، بأهمية الاستمرار والاستفادة من كبار السّن فهم ثروة وكنوز معرفية يجب علينا أن نستفيض من تجربتها، وأن نحرص على تدوين خبراتها وتوثيقها لكي تكون هي المرجع الدائم لنا.
طُوِيَتْ صفحاتُ الأيام وجاء إصداري الأول «تجار الجثث» وباتصال بصوت الأخ الأكبر دعاني للجلوس معه في مكتبه، وأشار لي بالعديد من الملاحظات التي يجب عليّ أخذها بالحسبان، فعملية النشر لها أبعاد كثيرة، وليست مجرّد ورق يُطبع ويُنشر، لم أكن بكامل استيعابي لكلماته تلك، ولكن مع مرور الأيام، بدأت أفهم ما كان يرمي إليه حينها، ومع كل نشر أو إصدار أو تدشين كان هو أول المرجعيات التي أتكئ عليها، فكان سندي الذي ألجأ إليه كلما ضقت ذرعاً من الوسط الذي أشاركه إياه، وبكلماته التشجيعية، وابتسامته اللطيفة، أُطلق زفيراً ونستمر.
لم يكن يوسف محمد مجرد إعلامي عابر، بل كان ثروة وطنية، وعقلية إعلامية فذّة، كان مذيعاً متمكّناً، وذاكرة تراثية، وأخطبوطاً في العلاقات العامة، فلقد أنعم الله عليه بالقبول، وما أكثر المحرومين منه، لم تكن تسمع منه غير الكلمات السمحة، «إن شاء الله»، «تامر»، «من عيوني»، فلم يكن الرفض في قاموسه أبداً.
لقد رحل عنا بومحمد تاركاً لنا إرثاً عظيماً ومكتبة تاريخية عتيقة، فلقد استطاع خلال مسيرته توثيق 250 شخصية بحرينية ممن قدّموا للوطن الكثير، ومن أبرز ما قدّمه لنا هو برنامج «ذاكرة البحرين»، وبرامج محطات فنية وبرنامج «عزوتي وناسي»، وبرنامج «سيرة ومكان»، وعلى صعيد الإذاعة فلقد قدم لنا برنامج «خير جليس» الذي وثّق فيه سيرة الكتّاب البحرينيين، وبرنامج «نغمات معتقة» الذي عرّف فيه بالفنانين البحرينيين وفنون الصوت، فكل حلقة من هذه البرامج هي بمثابة مرجع تاريخي سيعود له أحد الباحثين يوماً لما تحتويه من كنوز استطاع بومحمد نبشها في الماضي وتقديمها لنا كمشاهدين وباحثين.
بومحمد بمثابة السند الذي ألجأ إليه في كل مرة ضاق فيها صدري، بمثابة المُرشد الذي استفدت من نصائحه في حياتي المهنية والشخصية، وخاصة خلال إعدادي لبحث الماجستير وتنظيم الأنشطة الثقافية في الجمعية، كنت أستشيره في اختيار العناوين والأسماء، وكان دائماً يوجّهني نحو الأفضل بفضل خبرته ومعرفته. واليوم بينما تغيب شمسك في أفق الدنيا، تشرق ذكراك في قلوبنا، لتضيء دروبنا بالعلم والمعرفة، إن غيابك، يا بومحمد، ليس إلا انتقال من عالمنا الفاني إلى عالم الخلود، حيث لا فراق ولا حزن، فدعاؤنا أن يجمعنا الله بك في مستقرّ رحمته، وإنّا على فراقك لمحزونون، ولكننا على لقائك في الآخرة لموقنون.