في عالم تتسارع فيه التحولات التكنولوجية بشكل غير مسبوق؛ لم تعد مسألة تأثر الوظائف بالذكاء الاصطناعي مجرد تنبؤات نظرية، بل أصبحت واقعاً يفرض نفسه بقوة.

فوفق دراسة حديثة أصدرتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع المعهد الوطني البولندي للبحوث، فإن وظيفة من بين كل أربع وظائف حول العالم باتت مهددة بالتحول أو التبدل بفعل الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما يعني أن علينا اليوم، وليس غداً، الاستعداد لهذا التحول الكبير في طبيعة الوظائف، وتهيئة أنفسنا، أفراداً ومؤسسات، للتعامل مع معطيات المستقبل الجديدة.

هذه الدراسة أعادتني مباشرة إلى الندوة التي أُقيمت الأسبوع الماضي في مركز كانو الثقافي، والتي خُصّصت لمناقشة انعكاسات الذكاء الاصطناعي على العمل الإعلامي، تحدث عدد من الزملاء الإعلاميين المشاركين عن أن الذكاء الاصطناعي قادم لا محالة، إلا أنهم أجمعوا كذلك على أن العنصر البشري سيظل حاضراً ومتحكماً في السياق الإعلامي، ما يعيدنا إلى السؤال الجوهري؛ هل نحن أمام أتمتة كاملة للمهن، أم أننا بصدد إعادة تشكيل المهام والأدوار؟

أعود للدراسة التي افتتحت بها مقالتي هذا، والتي تُمثّل أداة ذكية تمّ تطويرها عبر الجمع بين خبرات بشرية ونماذج ذكاء اصطناعي، لتقدّم رؤية واقعية مدعومة بالمعلومات، تساعد الدول وصُنّاع القرار على فهم المخاطر الحقيقية التي تواجه الوظائف في عصر الذكاء الاصطناعي.

لقد أثارت هذه الدراسة في نفسي إحساساً مزدوجاً؛ من جهة قلق عميق على مستقبل كثيرين ممن قد يجدون أنفسهم فجأة أمام تحديات غير مسبوقة، ومن جهة أخرى أمل كبير في قدرتنا كبشر على التكيّف والتطور.

الأرقام واضحة، نحو 25% من الوظائف معرّضة للأتمتة الكاملة، مع ارتفاع هذا الرقم في الدول ذات الدخل المرتفع ليصل إلى 34%. وما يزيد من تعقيد المشهد هو أن النساء أكثر تعرّضاً لهذه المخاطر مقارنة بالرجال، وهذا يدعونا للتفكير بعمق حول الفجوات الاجتماعية والمهنية التي علينا العمل على معالجتها.

ومع ذلك، لا يجب أن نغفل أن الدراسة تؤكد أن الأتمتة الكاملة لا تزال محدودة، فكثير من المهام تحتاج إلى تدخل بشري حيوي، وهذا يجعلنا نتذكر أن الذكاء الاصطناعي ليس خصماً لنا بل أداة يمكننا توظيفها بحكمة لتعزيز مهاراتنا وتحسين جودة العمل، فالمسألة ليست خسارة الوظائف فقط، بل تحولها إلى وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة، وهذه فرصة لنا جميعاً لأن نكون على مستوى هذا التحدي.

أشعر أن مسؤوليتنا الآن أكثر من أي وقت مضى تكمن في التعلم المستمر، وتأهيل أنفسنا والشباب للاندماج في بيئة عمل تتغير بسرعة، واستثمار الذكاء الاصطناعي كحليف يدعمنا لا يزيحنا، وعلينا أيضاً دعم السياسات التي تضمن حماية حقوق العاملين خلال هذا التحول، مع تعزيز البنية التحتية والمهارات الرقمية.

في النهاية، لا يمكن أن ننسى أن التكنولوجيا، مهما كانت متقدمة، لن تحل محل القيم الإنسانية الأساسية، الإبداع، والتفكير النقدي، والتعاطف، هذه هي الجوانب التي يجب أن نحرص على تعزيزها، لأنها الحصن الذي يحمي دورنا في عالم متغيّر.