د. خالد الحمداني

في قلب الخليج العربي، وعلى ضفافه الغربية، نشأت واحدة من أقدم وأغنى الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني: حضارة البحرين. تلك الأرض الصغيرة في مساحتها، الكبيرة في أثرها، التي كانت وما تزال منبعاً لنشاطٍ حضاري متجدد يشهد له التاريخ، وتزخر به الشواهد الأثرية والمرويات الإنسانية عبر العصور. فحين نبحث عن معنى الحضارة، لا يمكننا أن نغفل دلالاتها العميقة. إذ عرّفها اللغويون بأنها من «الحضور»، و»الإقامة والاستقرار» وهي ضد «الغياب» و»المغيب» وقيل هي نقيض البداوة، ومن هذا المعنى اشتق بعض المفكرين تعريفاً اصطلاحياً للحضارة بأنها تجسيد فعّال لوجود أمة أو مجتمع، لا بمجرد البقاء، بل بما تتركه من أثر وتأثير في الإنسان والمكان والزمان، وما تنتجه من قيم وفكر وفنون ونظم وعمران. وكلما امتد هذا الحضور أثرًا، واستمر عبر الزمن، دلّ ذلك على رسوخ تلك الحضارة وأصالتها. كما تُعرف الحضارة بأسماء متعددة في السياقات العربية: كالعمران، والمدنية، والثقافة وكلها تصب في معنى واحد: تجلي الإنسان في أرقى صوره عندما يبني، ويبدع، ويؤثر.

وبهذا المعنى، يمكننا أن نقرأ حضارة البحرين لا بوصفها فصلاً من التاريخ، بل كسلسلة متصلة من الحضور الحضاري الذي ابتدأ منذ آلاف السنين، وتجلّى في حضارة دلمون العريقة التي لعبت دور الجسر التجاري والثقافي بين الشرق والغرب، وبرزت كمركز ديني واقتصادي في العالم القديم، واستمر هذا الازدهار في العصور الإسلامية، حيث اعتنق أهل البحرين الإسلام طوعاً لا كرهاً، فكان ذلك حدثاً مفصلياً أعاد تشكيل الملامح الروحية والثقافية للمجتمع، وأسهم في بناء هوية بحرينية إسلامية متميزة، ثم تواصل هذا الحضور في العصر الحديث مع تأسيس دولة حديثة متقدمة حافظت على أصالتها بينما فتحت أبوابها للتطور والعالمية.

الحضارة البحرينية، كغيرها من الحضارات الكبرى، قامت على مجموعة من الموارد التي شكّلت أركانها وبنت خصوصيتها. كان الدين الإسلامي ممثلاً بالقرآن الكريم والسنة النبوية الركيزة الكبرى التي استندت إليها، فشكّل الإيمان والتوحيد والعدل والعلم والأخلاق والتسامح والتعايش محاور مركزية في المنظومة الحضارية.

ثم كانت اللغة العربية هي الحاضنة الفكرية والثقافية التي حملت مضامين الحضارة، وعبّرت عنها في أدق صورها، فصارت لغة الدين والعلم معاً. ولا يمكن إغفال الأثر الكبير للمؤثرات الخارجية التي دخلت من بوابة الموقع الجغرافي المتميز للبحرين، والذي جعلها مركزاً حيوياً للتبادل التجاري والثقافي مع حضارات متعددة، فاستفادت منها دون أن تتخلى عن هويتها.

ولعل من أبرز خصائص هذه الحضارة البحرينية أنها حضارة مؤمنة تستمد من الدين جوهرها، ومنفتحة تتفاعل مع الآخر دون أن تفقد ثوابتها، ومتسامحة تعترف بالآخر وتعامله بعدل وإنصاف، وإنسانية تكرم الإنسان بغض النظر عن عرقه ومعتقده، ومرنة تجمع بين الأصالة والتجدد، وبين الوحدة والتنوع، في نسيج حضاري غني وفريد.

في هذه السلسلة من المقالات تحت عنوان «حضارة البحرين: هوية وأصالة»، سنسلط الضوء على ملامح هذا الحضور التاريخي الممتد، وسنستعرض كيف صيغت هذه الهوية البحرينية الراسخة، وكيف أسهمت في التفاعل مع محيطها الإقليمي والدولي، وشاركت في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية والإنسانية. سنتناول الجوانب الثقافية والدينية والاقتصادية والعمرانية، ونقف على تجلّيات الأصالة والحداثة، لنبني صورة شاملة عن هذه الحضارة التي لم تكن يوماً غائبة، بل حاضرة، ومؤثرة، ومتجذرة في عمق التاريخ. هذه السلسلة ليست وقفة عند الماضي فقط، بل دعوة للتأمل في قيمة الحضور، وفي استمرار الأثر، وفي قدرة هذه الحضارة على أن تبقى جزءاً حياً من مشهد الحضارات الإنسانية الكبرى.

* باحث في التاريخ وأكاديمي