تخيل عزيزي القارئ لو أن عامل نظافة، بدلاً من نقل النفايات إلى المكبات المخصصة، قرر رميها في أحد الأحياء السكنية اختصاراً للوقت ولكي يتسنى له الوصول لمنزله بشكل أسرع، والارتياح من عبء المسافة.
سرعان ما تتراكم الأوساخ، وتنتشر الحشرات والقوارض، وتتعالى شكاوى الأهالي، وتستنفر الجهات الصحية والبلدية، وتتحرك الصحافة، وتُنفق الأموال، وتشكّل اللجان بعد اللجان، وربما تتفشّى الأوبئة، وتنشغل الدولة بأكملها في حل سلسلة التداعيات لسلوك فردي بسيط في ظاهره. كل الحلقات توالدت من قرار فردي بسيط.. لكنه استهتار مكلف.
السؤال هو: ماذا لو تكرّر هذا السلوك من آلاف الموظفين في مؤسسات الدولة؟ مهما كانت مسؤولياتهم ووظائفهم بسيطة، من يتحمّل حينها تبعات سلسلة من الإهمال والمزاجية والقرارات الشخصية التي تبدأ من موظف بسيط وتنتهي بخلل مؤسسي شامل؟ من الفاسد الحقيقي؟ أهو من يسرق الملايين، أم من يسرق من عمله روح الإخلاص؟ والفساد يبدأ في اللحظة التي يتنازل فيها الفرد عن مسؤولياته.
كلما زرت مجمع السلمانية الطبي، أتأمل هذه الفكرة. فالحكومة الموقرة مشكورة، لا تألو جهداً في توفير الميزانيات والإمكانيات لتطوير الرعاية الصحية. لكنّ الجهود تُهدَر حين يقابلها بعض الموظفين بعدم اكتراث.
فكم من طبيبٍ حوّل مراجعة المريض إلى تجربة قاسية؛ بسبب مزاجه السيئ وظروفه الشخصية، وكم من ممرضةٍ نقلت توترها الشخصي إلى أجواء العلاج!
قبل أيام، قصدت السلمانية، فإذا بطبيبة تصرخ على المرضى بحدة، تعاملهم بجفاف وعدائية، ويتخوف المرضى من الدخول لغرفتها لتجنب الإهانات والصرخات، في المكان الذي يجب أن يكون بلسماً لآلام الموجوعين من المرضى، لا أن يصبح مكاناً للتعرض للإهانات، حيث يصبح المرض الجسدي أرحم بكثير من الإهانات المعنوية.
هذه السلوكيات، وإن بدت فردية، إلا أن أثرها تراكمي، يهدم ثقة المواطن بالمؤسسة الصحية، ويفسد صورة المؤسسة.
إنها سلوكيات تضرب بعرض الحائط كل الجهود المضنية التي بذلتها الكوادر الصحية والمؤسسات الأهلية والحكومة الموقرة على مدار سنوات لصنع واقع أفضل للرعاية الصحية.
هنا، نطرح سؤالاً هاماً: من الفاسد في هذه الحالة؟ عن نفسي أقول: نحن الفاسدون، وأعني بنحن: كل موظف في أي درجة وأي مؤسسة، كان من المفترض أن يضع الوطن نصب عينيه وهو يؤدي واجبه، ويقدس عمله.
الفساد قد لا يكون رشوة، ولا تمرير صفقات من تحت الطاولة، بل يبدأ أحياناً بإهمال صغير.. بإخلال في ضمير موظف.
قال الله تعالى: وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين". فهل نحسن؟ أم نظل نحن.. الفاسدون؟