مع العودة إلى المدارس، تكثر أحاديث الأمهات عن معاناتهن في الصيف؛ فالأبناء قضوا الإجازة بين سهر الليل ونوم النهار، بلا نشاط ولا فائدة تذكر، خصوصاً عند العائلات التي لم تسافر. حياة مقلوبة، وعادات غذائية غير صحية، وكسل يرهقهم مع بداية العام الدراسي.
هذه القصص أعادتني إلى الوراء قليلاً، حيث كان المشهد مختلفاً تماماً؛ فالصيف في الماضي كان موسماً للعمل، الأولاد والبنات يقتنصون الفرص، يعملون ولو أياماً معدودة ليجمعوا مبلغاً يساعدهم على شراء مستلزمات الدراسة أو شراء مستلزماتهم واحتياجاتهم الخاصة أو حتى مساعدة الأهل. كانت تلك التجارب الصغيرة تصنع فيهم عادات كبيرة؛ المسؤولية، الانضباط، والإحساس بقيمة كل دينار، حتى أن كثيراً منهم بدأ بتجارة صغيرة ومحدودة وبأقل القليل، ولكنه نجح في تحويلها إلى شركات ومؤسسات كبيرة ومؤثرة.
اليوم، تعود هذه الروح من جديد عبر مبادرة أطلقتها غرفة تجارة وصناعة البحرين في العام 2022 تحت عنوان «جرب تشتغل». الفكرة بسيطة لكنها عميقة؛ تدريب طلبة المدارس من سن 14 إلى 18 عاماً داخل مؤسسات القطاع الخاص، ليعيشوا تجربة العمل كما هي، بتفاصيلها الصغيرة وتحدياتها الحقيقية. واليوم وبعد أربع سنوات من التطبيق سرعان ما تحول البرنامج من تجربة إلى محطة أساسية ينتظرها الشباب كل صيف. اللافت أن المبادرة لم تكن مجرد نشاط صيفي عابر، بل مشروعاً يحظى برعاية واهتمام كبيرين، حتى أن سمو الشيخ ناصر بن حمد
آل خليفة شدد، خلال استقباله الطلبة المشاركين في النسخة الرابعة مؤخراً، على أنها خطوة نوعية لإعداد جيل قادر على المنافسة، وأنها تعكس مفهوم الشراكة المجتمعية في أجمل صورها. أثر البرنامج يتجاوز التدريب الفني أو المهني. هو في الحقيقة درس عملي في الانضباط، الالتزام بالمواعيد، التعامل مع فريق عمل حقيقي، وفهم معنى المسؤولية. هذه أمور لا تدرس في الكتب، لكنها تكتسب من الميدان فقط.
والأجمل أن القطاع الخاص لم يتعامل مع المبادرة كواجب ثقيل، بل كشراكة حقيقية. شركات ومؤسسات فتحت أبوابها للطلبة، وقدمت لهم بيئة تعلم وحاضنة، لتؤكد أن دورها يتجاوز الأرقام والميزانيات، إلى المشاركة الفعلية في صناعة أجيال قادمة.
«جرب تشتغل» رسالة واضحة لشباب البحرين؛ المستقبل يبدأ بخطوة صغيرة، وربما بأسبوعين من العمل الصيفي. ومن يعرف؟ قد يكتشف شاب شغفه في مجال لم يكن يفكر فيه أصلاً، أو يبني أول شبكة علاقات مهنية تساعده لاحقاً.
باختصار، نحن أمام مبادرة وطنية تعيد تعريف الصيف، وتحول وقت الفراغ إلى فرصة لبناء الذات. وإذا استمر هذا النهج، فإن البحرين ستكسب جيلاً أكثر وعياً وانضباطاً، جاهزاً لمواجهة تحديات الحياة بثقة وعزيمة.