بينما أنا في طور تبنّي دراسةٍ تحليليةٍ جديدة حول «تحليلات الأفراد بالذكاء الاصطناعي» وأثرها على أداء المؤسسات، وبعد اطّلاعي على طيفٍ واسع من التقارير الدولية والبحثية؛ تبلورت لديّ معادلة عملية تُوازن بين الإنسان والخوارزمية: مهارة تُصاغ بالتعلّم المستمر، وقرار يُبنى على الدليل، وثقافة تمنح التكنولوجيا معناها.

تبدأ الصورة من فجوةٍ لا يمكن تجاهلها، حيث تُظهر بياناتٌ حديثة - في مسح أجرته Skillsoft قبل أسبوعين - أن واحداً فقط من كل عشرة من مسؤولي الموارد البشرية واثقٌ تماماً بأن قوى العمل مهيّأة لتحقيق الأهداف خلال العامين المقبلين، رغم أن 85% من المؤسسات تمتلك نظماً متطورة لتنمية المواهب، لكن 6% فقط تصفها بـ«الممتازة»، فيما يقرّ كثيرون بأن استراتيجياتهم لا تزال بعيدة عن الاتساق مع الأهداف المؤسسية. كما تتصدّر مهارات القيادة والذكاء الاصطناعي والمهارات التقنية قائمة الفجوات الأكثر إلحاحًا. هذه الأرقام تُحيلنا إلى ثغراتٍ في الحوكمة والقياس وتصميم برامج التطوير والتدريب، وتقودنا إلى كيفية تحويل الاستثمار في المهارة إلى قيمةٍ قابلة للرصد والقياس.

ومن منظورٍ أشمل، يقدّم «تقرير وظائف المستقبل 2025» للمنتدى الاقتصادي العالمي خريطة الطريق للسنوات المقبلة: في المتوسط ستتغيّر أو تُعاد صياغة 39% من المهارات الرئيسة بحلول 2030، مع ثقلٍ متزايد للتفكير التحليلي والإبداعي، والمرونة، والتعلّم مدى الحياة، بالتوازي مع الثقافة الرقمية والقدرة على التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي. هذا يعني أن تنظيم العمل سيتحوّل تدريجيًا من «المسمّى الوظيفي» إلى «محفظة المهارات»، وأن أي مؤسسة لا تربط التخطيط للمهارات باستراتيجيتها ستدفع كُلفة زمنية ومالية مضاعفة لاحقًا.

وتتقاطع هذه الرؤية مع أولويات قادة الموارد البشرية كما ترصدها «جارتنر»: تطوير القادة والمديرين، ثم الثقافة التنظيمية، فالتخطيط الاستراتيجي للقوى العاملة، وإدارة التغيير، وتقنية الموارد البشرية. اللافت أنّ الاعتماد على «التخطيط المعتمد على عدد الموظفين» لا يزال شائعاً، بينما نسبة محدودة فقط تمارس تخطيطاً استراتيجياً ناضجاً للقوى العاملة؛ ومع تراكم موجات التغيير تتزايد مؤشرات الإرهاق لدى فرق العمل. الخلاصة العملية: قبل تسريع الأدوات، لا بدّ من إطار حوكمةٍ واضح يحدّد أين تُستخدم الخوارزميات وبأي بيانات، وكيف تُدار المخاطر، وكيف نقيس أثرها على القرارات والنتائج.

كما تقدّر «Gallup» كلفة ضعف الاندماج الوظيفي عالمياً بثمانية ترليونات وثمانمئة مليار دولار سنوياً. هذا الرقم يذكّرنا بأن الخوارزميات لا تُصلح وحدها ما تفسده فجوات الثقة والمعنى؛ فالموظف الذي يشعر بأن صوته مسموع ومساره المهني واضح يتعلم أسرع، وينتج أكثر، ويستوعب التغيير بألمٍ أقل. أي أن القيمة تبدأ من «خبرة موظف» مصمّمة بذكاء عاطفي لا بخوارزمية فحسب.

عملياً، أقترح إطاراً رباعيّاً يوازن بين الإنسان والخوارزمية دون إفراط أو تفريط. أولاً: تشخيص حيّ للمهارات عبر قاموس مؤسسي موحّد يضمّ المهارات الإنسانية والرقمية، ويرتبط مباشرة بأهداف واضحة، مع تحديثٍ مستمر يعتمد بيانات الأداء والمشاريع لا استبياناً سنوياً وحسب.

ثانياً: تعلّم موجّه بالمسار المهني بدل دورات عامة؛ وحدات قصيرة دقيقة (micro-learning) مرتبطة بمشاريع تطبيقية وتغذيةٍ راجعة مستمرة، بحيث يصبح التعلّم تجربةً وظيفية لا محتوى منفصلاً. ثالثاً: حوكمةٌ مسبقة لاستخدام الذكاء الاصطناعي تحدّد مصادر البيانات المسموح بها، وآليات التحقق من مخرجات النماذج، ورصد الانحياز والخصوصية والمخاطر القانونية والسيبرانية، وبرنامجًا لإدارة إرهاق التغيير. رابعاً: مؤشّرات تُسعّر القيمة لا المجهود: كجودة التعيين، وزمن الوصول للإنتاجية، ونسبة الشواغر التي تُسد داخلياً، وتراجع دوافع الاستقالة، مع مراجعةٍ فصلية أمام الإدارة العليا تربط التحليلات بقراراتٍ واضحة وأثرٍ ملموس.

هكذا تستقيم معادلة الموارد البشرية الجديدة: إنسانٌ محفَّزٌ ومُمكَّن، وخوارزميةٌ دقيقةٌ محكومةٌ بالحوكمة. وعندما تتكامل هذه الأركان، تتحوّل تحليلات الأفراد من «لوحات لامعة» إلى «بوصلة قرار»، وتثبت أن كل استثمارٍ في المهارة يعود أضعافاً في الأداء والابتكار والجاهزية للمستقبل.