جاء قرار صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بتطوير سوق المنامة ليشكل نقطة تحول استراتيجية في إعادة صياغة العلاقة بين التراث والحداثة، وبين الهوية الوطنية والتنمية الاقتصادية. هذه المبادرة لم تكن مفاجئة، بل جاءت تفعيلاً لتوجيهات حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، الذي لطالما أكد في خطاباته ومبادراته على أهمية صون التراث البحريني، والاهتمام بالمناطق السياحية، وتعزيز الهوية الثقافية، وربطها بمسارات التنمية المستدامة.
سوق المنامة، واحد من الأسواق الرئيسية وذات المكانة الرفيعة في الذاكرة البحرينية، فهو ليس مجرد مركز تجاري، بل هو مرآة لتاريخ البحرين الاجتماعي والاقتصادي. والتوجه لتطويره بتوجيه رفيع ، يعني الحفاظ على هذه الذاكرة، مع إعادة توظيفها لتواكب العصر، دون أن تفقد روحها، وهذا القرار يعكس وعياً عميقاً بأهمية التراث في بناء المستقبل، ويؤسس لنموذج يمكن تعميمه على مواقع أخرى في المملكة، بما يخلق تجربة سياحية متكاملة، تراعي خصوصية كل منطقة، وتمنح الزائر رحلة متعددة التفاصيل.
الجميل هو الصورة الكلية لما يحدث.. فهذه التوجهات الوطنية تُترجم اليوم إلى مشاريع ملموسة، مثل تطوير الأسواق الشعبية، وترميم البيوت التراثية، وإنشاء مسارات ثقافية في المدن والقرى.
وبحسب منظمة السياحة العالمية، السياحة تمثل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتوفر وظيفة واحدة من كل عشر وظائف حول العالم. وفي البحرين، السياحة تُعد من ركائز التنويع الاقتصادي، خاصة مع ما تمتلكه المملكة من مقومات ثقافية، وبحرية، وتراثية.
ثمة فضاء واسع للعمل، فمثلاً يمكن تقديم عروض مشجعة للسياحة الداخلية، تشمل تخفيضات على الفنادق والمطاعم والأنشطة، لتكون في متناول عامة الناس، وإيجاد أسعار تناسب مختلف الشرائح الاجتماعية، خاصة الأسر والشباب، لضمان شمولية التجربة السياحية، وخلق المزيد من الأنشطة الأسبوعية أو الشهرية في المواقع التراثية والسياحية، موجهة للأطفال والشباب والأسر، مثل ورش الحرف، وعروض الفنون الشعبية، ومسابقات ثقافية وسلع تجارية بأسعار تنافسية وغيرها.
إن توسيع فكرة تطوير سوق المنامة يجب أن تتسع لتشمل مواقع أخرى، وفق رؤية تراعي خصوصية كل منطقة، فلدينا القرى التي تمثل كل واحدة تجربة مختلفة بين مزارع وحرف وشواطئ وبيوت قديمة، فالحفاظ على الطابع المحلي وتطويره وجعله سبباً لاستقطاب الزوار من الداخل والخارج هو رهان رابح بلا شك.
عالمياً تفتخر الدول بمواقعها القديمة، وسط البلد والقرى الأصيلة، ففي فرنسا وبريطانيا يمثل الريف تجربة مختلفة تماماً عن العاصمة، وفي سنغافورة بطاقة واحدة تمنح الزائر دخولاً مخفضاً إلى عدة مواقع، لا موقع واحد.. مع خصومات على المواصلات والمطاعم، والمهرجانات الموسمية في اليابان مثلاً تعتبر تجربة لا مثيل لها في كل العالم.
إذاً على الجميع التضافر من أجل إنجاح مثل هكذا حراك ومثل هذه الرؤية الوطنية المتقدمة.. ابتداء من المهندس الذي يصمم بأسلوب يحترم الهوية ويخدم الوظيفة، والمسؤول الذي يضع السياسات التي تضمن استدامة المشاريع، وإشراك الفنان والرسام لإضفاء الروح والجمال للمكان، عبر الجداريات والعروض، وإشراك المجتمع المحلي وفتح البيوت القديمة.. فحكاية المنامة.. حكاية زاخرة بالتفاصيل وغنية بالتجارب.. وذاكرة الكبار خير شاهد على ذلك، وحتماً إن حكاية البحرين أكثر ثراءً وتنوعاً.