قبل فترة خطرت لي فكرة طريفة، أو قل وسواساً عصرياً. كنت جالساً في زاوية الصالة، أحدّق في هاتفي كما يفعل معظمنا، وفجأة تساءلت: هل يُنصت هذا الجهاز الصغير إلى ما أقوله؟ هل هو مجرد مستمع صامت يسجّل كل همسة، ثم يرسلها إلى مركز البيانات حيث تُحوّل إلى إعلان يظهر لي لاحقاً في إنستغرام أو يوتيوب أو حتى في تطبيقي المفضل لعدد خطوات المشي؟
قررت أن أتحقق بنفسي، ولو بأسلوب غير أكاديمي. جلست وقلت بصوت مرتفع شيئاً لا يمكن أن يكون لي به سابق اهتمام. قلت بكل جدية مصطنعة إنني أعشق البطاطس البنفسجية. نعم، البطاطس البنفسجية. لم أرها يوماً، ولم أبحث عنها، ولا أعرف هل هي تؤكل أم تُزرع على كوكب زحل. ثم انتظرت، يوماً ويومين، أتصفح هاتفي بنظرات مترصدة. هل سيظهر إعلان عنها؟ هل سأرى صورتها متربعة على صفحة إعلانية تقول لي إنّني «بحاجة ماسة إلى بطاطس بنفسجية طازجة الآن»؟
لم يحدث شيء. لا إعلان، ولا بطاطس، ولا حتى ظلّها. وهنا بدأت أرتبك. إن لم يكن الهاتف يستمع إلي، فلماذا أشعر بأنه يعرفني أكثر مما ينبغي؟ لماذا تظهر لي إعلانات لمنتجات لم أبحث عنها، ولكنني كنت أفكر بها، وربما فقط حدّثت بها نفسي دون أن أنطق بها؟
الحقيقة أن الهواتف، وفقاً لما تقوله الشركات التقنية الكبرى، لا تستمع إلينا بغرض عرض الإعلانات. ليس هناك آلية دائمة لتسجيل الصوت وتحليله. ولكن هذا لا يعني أنّها لا تعرف عنا كل شيء. فالهاتف يعرف أين ذهبت البارحة، وماذا أكلت، وما المقال الذي أطلت التحديق فيه، ومتى توقفت عند صورة في إنستغرام أكثر من ثلاث ثوان. يعرف أنك فتحت تطبيق التمارين، ثم أغلقتَه بعد عشر ثوانٍ دون أن تتحرك.
ولذلك، عندما كنت أفكر في الاشتراك في نادٍ رياضي وأنا أتناول اللقيمات بشيء من الذنب، لم يكن مستغرباً أن أستقبل إعلاناً عن خصومات رياضية في اليوم التالي. الهاتف لم يكن بحاجة إلى أن يسمعك، هو فقط كان يراك، يراقبك، يتعلّم منك بصمت يشبه الذكاء.. أو المؤامرة، بحسب وجهة نظرك.
صحيح أن بعض الأجهزة مثل المساعدات الذكية قد تبدأ بالتسجيل إذا التقطت كلمة مشابهة لكلمة التنبيه، وقد حدثت حالات قليلة تم فيها استخدام تسجيلات لأغراض تطوير الخدمة، ولكنها تبقى استثناءات نادرة لا تفسّر الشعور العام بأن هواتفنا تتنصّت علينا.
ربما الواقع أكثر دهاء مما نظن. فالهاتف لا يحتاج إلى أن يكون جاسوساً ليستخرج أسرارنا، يكفي أنه مرآة لعاداتنا وقراراتنا وسلوكنا اليومي. وربما حين ننظر إليه المرة القادمة بقلق وريبة، علينا أن نسأل أنفسنا أولاً: هل أخفيت عنه شيئاً أصلاً؟
إنه قد لا يستمع فقط، لكنه يعرف، وأحياناً، هذه المعرفة تُربك أكثر من التنصت.
* خبير تقني