في عالم متسارع التغيير، غيّبت فيه الحداثة والعولمة العديد من المرتكزات والعادات والتقاليد العربية الأصيلة المبنية على أساس متين وقوي، وتحول من خلاله الإعلام الفضائي الخاص عن مساره الرصين بسبب الإعلام الرقمي ومنصاته المتعددة والتي تغيب عنها الرقابة والرصافة، تظهر في الأفق بوادر ومحاولات لاستعادة شيء من تلك الخصال الحميدة والعادات المفقودة، ولكنها تبقى محاولات تشبه الإسعافات الأولية، خاصة إذا لم تكن بحجم المأساة الحقيقية التي نعيشها وسط منصات ومواقع رقمية لا هَمَّ لها سوى العصف بهوياتنا الوطنية وتقاليدنا العريقة.

وسط كل ذلك الزحام، تظهر مبادرة حقيقية وواقعية تُغيّر كل تلك المفاهيم، مبادرة «قدها»، ومن الشعار والهوية نستشف أنها تخاطب عقول الشباب مباشرة، ففي ظاهرها نبرة التحدي والند التي يعشقها جيل الشباب، أما في باطنها فهناك العديد من المكتسبات التي ستطال من يشترك في مسابقاتها أو حتى من يشاهدها، فتلك المبادرة وذلك البرنامج يركز على بناء شخصية قوية للشاب، ويعزّز لديه قيم الالتزام واحترام الوقت ويخلق من خلاله الانضباط الذي بات مفقوداً في وقتنا الحاضر، فهو يعمل على شحن عزيمة الشباب ويرشدهم إلى كيفية مواجهة العقبات بل وتحويلها إلى نجاح وتفوق، فالبرنامج يستعرض للمشاركين قصصاً شبابية واقعية تتمكّن من مواجهة التحديات والصعوبات، ويستضيف شخصيات ناجحة كنماذج يحتذى بها، وجميعنا يدرك أهمية هذه القصص لتلك المرحلة العمرية المفصلية، فهي تخلق عناصر فاعلة ومؤثرة في المجتمع وتوصل أهمية أدوارهم إلى عقلهم الباطني، فتجدهم بعد البرنامج -سواء كمشاركين أو مشاهدين- يتمتعون بروح المبادرة والمسؤولية الاجتماعية، مساهمين في العمل التطوعي بمختلف أنواعه.

يظل سمو الفريق الركن الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة مستشار الأمن الوطني قائد الحرس الملكي الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى، الداعم والملهم لجيل الشباب البحريني. وقد جاءت توجيهات سموه بإطلاق النسخة الثانية من برنامج «قدها»، لتترجم قناعات وتوجيهات سموه بتوفير منصات لصناعة قادة المستقبل من أبناء الوطن، حيث يعكس البرنامج رؤية سموه التي ترتكز على الاستثمار الحقيقي في طاقات الشباب، وتعزيز قيم ومهارات العمل الجماعي والانضباط.

وتم استلهام النسخة الأولى من «قدها» من دورة عسكرية في الحرس الملكي لاختبار قدرة المدنيين على تنفيذها، وارتفع سقف التحديات في النسخة الثانية بشكل كبير جداً وارتفعت معه سقف المشاركة الشبابية، حيث سعت هذه النسخة إلى تطوير هذه المنصة لكي تمنح الشباب فرصة لصقل مهاراتهم عبر تجارب عملية في الميدان العسكري. وهنا لا يفوتنا تقدير جهود الحرس الملكي التابع لقوة دفاع البحرين في تنفيذ رؤية سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة في إعداد جيل قوي الإرادة وقادر على مواجهة مختلف الظروف، ومستعد للمساهمة الفاعلة في صناعة مستقبل الوطن، من خلال تجارب ميدانية متقدمة تستهدف تنمية القوة الذهنية والجسدية والعمل الجماعي، وإبراز النماذج الشابة القادرة على تجاوز الظروف الاستثنائية.

من واقع الأمر، فإن برنامج قدها -وهو في رأيي ليس ببرنامج بقدر ما هو قدوة ومَثَلٌ أعلى لجيل كامل- يُسهم في بناء شخصيات قيادية وكسب المشاركين مهارات التفكير واتخاذ القرار، ويعزّز من العمل الجماعي وصولاً لخلق بيئة جديدة من الشباب تعمل على تمثيل البحرين في كل المحافل في حال المواصلة معهم فيما بعد البرنامج، وهو بالفعل أمر واقع، فما كان لمثل هذه المبادرات أن تظهر لولا الدعم المبني على الاستثمار في الشباب البحريني، فبرنامج قدها يعكس في جانبه الأول الرؤية الوطنية في تمكين الشباب والرهان على الإنجازات التي ستتحقق بسبب هذا الرهان، وفي الجانب الآخر يخلق نوعاً من الوعي المجتمعي من خلال تعزيز الإيمان بقدرة الشباب على أن يكونوا قدها دائماً، وبالتالي الوصول إلى نقطة مهمة جداً وهي تغيير نظرة المجتمع إلى قدرة الشباب.

باختصار، فإنني أتمنى كمواطن ومراقب وولي أمر أن يستمر هذا النوع من البرامج والمبادرات الواقعية، وأدعو إلى توسعة الفكرة وتعميم التجربة، وفتح المجال أمام الأفكار التي تعمل على فتح مسارات جديدة للتطوير والابتكار ضمن هذا البرنامج أسوة بمبادرة «فكرة» التي تهدف إلى تحفيز موظفي القطاع الحكومي لتقديم مقترحات تهدف إلى تحسين الأداء الحكومي وجودة الخدمات العامة.