في المحرق، حيث يعيد التاريخ كتابه فصول جديدة كل يوم عبر أكثر من 500 فعالية متنوعة، يعيش زوار «ليالي المحرق» تجربة استثنائية، في طرقات المحرق وفرجانها أشعر بأن شيئاً ما يشدني بعاطفة لا تخطئها الروح.. فالمحرق ذاكرة حية للبحرين وأهلها، ومركز ثقافي ظل لعقود مرآة للهوية، وربما لهذا السبب، كلما عدت إليها، شعرت بأنني أعود إلى بيت كنت أعرفه جيداً حتى لو غبت عنه طويلاً.
النسخة الرابعة من مهرجان «ليالي المحرق» جاءت هذا العام لتؤكد من جديد أنها مدينة قادرة على أن تجدد نفسها كل مرة، دون أن تفقد أصالتها، فمن وسط الفرجان والبيوت القديمة التي تنبض بتاريخ لا ينطفئ، انطلقت فعاليات المهرجان بزخم غير مسبوق، تجاوز عددها 560 فعالية، ما يعكس حجم التفاعل المجتمعي والشغف الذي يحيط بهذا الحدث عاماً بعد عام.
تنوع الفعاليات كان لافتاً، من حيث العدد ونوعية التجارب التي جمعت الفنون الشعبية والمعاصرة، المعارض الفنية، الورش الإبداعية، العروض الموسيقية، التجارب البصرية التفاعلية، وأركان الطهي المستوحاة من التراث البحريني، هذا الاتساع في المحتوى جعل المهرجان مساحة لتلاقي العائلات، والمهتمين بالفنون، ومحبي التراث، والباحثين عن تجربة جديدة تعيد صلتهم بالمكان.
اللافت هذا العام أن الحضور الخليجي كان استثنائياً؛ بدءاً من جمعية السدو الكويتية التي نقلت جماليات فنون النسيج التقليدي، مروراً بـ«بيت كلمات» من السعودية، مع إفراد مساحة خاصة لتسليط الضوء على جناح البحرين في «إكسبو أوساكا 2025» من خلال عروض مرئية ممتدة على طول مسار اللؤلؤ.
البيوت التراثية لعبت دور البطولة مجدداً، فظهرت كجسر يربط ذاكرة الماضي بإبداع الحاضر، «بيوت حنين» مثلاً قدّمت برنامجاً متنوعاً يجمع بين التصميم والمأكولات والمحتوى الثقافي الراقي، بينما أعاد مشروع «تحت أضواء المحرق» الحياة إلى متاجر وورش تاريخية تحولت إلى محطات ثقافية وسياحية نابضة بالحياة.
هذا التنوع وارتفاع عدد الزوار؛ حوّل «ليالي المحرق» إلى محرك حقيقي لتنشيط السياحة الداخلية، وعامل جذب لزوار من مختلف دول الخليج، ممن يأتون لاكتشاف العمق الثقافي للبحرين بعيداً عن الصورة النمطية للسياحة التقليدية، وهو ما يؤكد أن الرؤية التي تتبناها الدولة للاستفادة من القطاع السياحي في تنويع مصادر الدخل ليست مجرد شعارات، بل واقع يتحقق على الأرض من خلال مبادرات ثقافية واعية.
وأخيراً، تبقى المحرق، بكل تاريخها وروحها وتفاصيلها الهادئة، قادرة على أن تمنح كل زائر تجربة مختلفة، وما يقدمه مهرجان «ليالي المحرق» في نسخته الرابعة تأكيد جديد على أن الثقافة ليست ترفاً، بل هي استثمار طويل الأمد في الهوية والاقتصاد والإنسان في آن واحد.