بات من الطبيعي اليوم أن نرى مقاطع فيديو لشخصيات معروفة، وقد تم تصميمها بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ولربما يستطيع أهل الخبرة أن يميزوا ما بين الحقيقي والمزيّف، بينما يواجه النسبة الأكبر من البشر مشكلة في تحديد حقيقة ما يرونه اليوم.

ويتوقع خلال فترة ليست بالبعيدة أن تتجاوز هذه التقنية قدرات الخبراء على تحديد ما إذا كان المقطع المعروض حقيقياً أم مولداً ومزيفاً لوجوه وأصوات أصحابه، ولم لا، فقد تمكنت عصابات من الوصول إلى حسابات بنك أوروبي واستخدام صورة وصوت مدير أحد الفروع للاحتيال على زميله وإقناعه بإجراء عمليات تحويل مالي كبير دون أن يدرك وقوعه في عملية احتيال.

بل إن الهاكرز تمكنوا من عقد اجتماع مجلس إدارة «مزيف» لأحد البنوك عن بعد، وأشركوا فيه مسؤولاً لفرع البنك ووجهوا لهذا المسؤول من خلال تزييف الوجوه والأصوات، مجموعة قرارات لإجراء عمليات بنكية بالملايين لحسابات الهاكرز، قبل أن يدرك البنك وقوعه ضحية لهذه الجريمة.

السؤال.. ماذا عن الأفراد وحساباتهم الشخصية؟ وماذا عن الشركات التي تجري تحويلات مئات مالية يومياً؟ وما احتمالية تمرير عمليات احتيالية لا تُكتشف إلا في نهاية العام المالي؟ وربما لا تكون المصارف بمنأى عن هذا التحدي، خصوصاً مع ضخامة عدد التحويلات اليومية وتشعّب مساراتها التشغيلية.

في مقابل ذلك، تتجه دول عدة نحو إعادة تعريف الهوية البشرية في العصر الرقمي؛ فقد بدأت الدنمارك مناقشة مقترح قانون يمنح الأفراد الملكية الكاملة لملامحهم وصوتهم وبيانات أجسادهم، بحيث لا يحق لأي جهة استخدام تلك البيانات دون موافقة صريحة، في خطوة تُعد تحولاً جذرياً في حماية الهوية الإنسانية ومنع استنساخها رقمياً.

ولا أستثني نفسي حين أتحدث عن مشكلة الوعي؛ فجميعنا وافقنا، دون تدقيق، على شروط وأحكام مواقع وتطبيقات عديدة، وربما أدرك بعضنا لاحقاً خطورة تلك البنود، لكن استشراف أثرها المستقبلي ليس أمراً يسيراً، خصوصاً في ظل تسارع التطور التقني وتغير أساليب تفسير البيانات وحقوق الخصوصية.

وقد يكون ما يبدو آمناً اليوم هو ما يهدد خصوصيتنا غداً، وما نراه بسيطاً الآن قد يتحول لاحقاً إلى مصدر خطر على مستقبلنا.

لذلك، لا يمكنني تحذير الناس من استخدام الأدوات التقنية لأننا جميعاً جزء من هذا المسار، لكن من الضروري أن يلتقي الخبراء وصناع القرار والمختصون لبحث مستقبلنا مع هواتفنا وشاشاتها وميكروفوناتها وكاميراتها، ومع أنظمة المراقبة والتسجيل في المنازل والشوارع والعمل.

ورغم اتساع فجوة الوعي بخطورة ما يحدث، لا يبدو المستقبل مغلقاً أو مخيفاً بالكامل؛ فهناك حلول تقنية وتشريعية يمكن أن تشكّل إطار حماية فعّالاً للهوية الرقمية.

أبرزها تطبيق التحقق الحي للهوية بدل الاعتماد على صورة ثابتة أو تسجيل صوتي، وتفعيل المصادقة المتعددة عند تنفيذ العمليات المالية الحساسة، واستخدام أدوات متخصصة لكشف التزييف العميق قبل اعتماد المحتوى، إلى جانب اعتماد قنوات بديلة للتأكد من صحة الطلبات الطارئة، وتوعية الموظفين والجمهور بأساليب الاحتيال الحديثة، إضافة إلى تنظيمات قانونية تمنح الصورة والصوت صفة الملكية الشخصية.

بهذه المقاربات، تصبح التكنولوجيا ليست تهديداً، بل منظومة يمكن ضبطها وحمايتها، بما يضمن الحفاظ على الثقة في عالم تتغير فيه ملامح الهوية والخصوصية بوتيرة غير مسبوقة.